حَدث أن سافر ستة أشخاص ينتمي كل اثنين منهم لبلد حتى غرقت سفينتهم فرمى بهم الموج على شط المحيط و قد نجوا من الهلاك. و بينما كانوا يتساءلون عن مصير بقية ركاب الباخرة إذ أبصروا قنينة من الزجاج محكمة الإغلاق بداخلها دخان حسبوه للوهلة الأولى بعض ماء يخففون به
وطأة العطش البادية على شفاههم اليابسة المتكسرة. و رغم خيبة أملهم أقدموا على فتح القنينة فتصاعد منها الدخان و أخذ يتشكل على هيئة جني هائل الشكل كثيف شعر الحاجبين عريض الأسنان. و ما هي إلا لحظة كلمح البصر حتى كان أمامهم الجني منتصبا كالجبل و يسألهم شاكرا على تحريره و معلنا لهم عن مكافأة لكنها متفاوتة من منظوره الجزائي:
· سأكافئكم و في دقائق معدودة أنصرف بعدها عن أنظاركم إلى الأبد.. فلا تضيعوا الفرصة لأنها لا تتكرر. سيسألني واحد من الاثنين المنتميين إلى بلد أمنية أحققها على الفور و لكنني سأحقق لمواطنه ضعفها قبل أن يسأل.. قلت ما لدي و لنبدأ فإن الوقت كما أسلفت محدود و لا تضيعوه.
في الحال و من دون تردد تقدم أحد إثنين و أفصح عن أمنية عمره فمد الجني يده فتجسدت لتوها واقعا ملموسا ثم التفت إلى مواطنه و حقق له ضعفها و انصرفا راضيين. و تقدم آخر فعرض أمنيته فحققها الجني بحركة من يده ثم حقق ضعفها لمواطنه و انصرفا كذلك و هما في حالة بادية من الرضا التام.
التفت الجني إلى الإثنين الباقيين و سأل أمن أمنية عند أحدكما أحققها في أسرع من طرفة عين.. لم يتلق جوابا فسأل ثانية و قد أخذ منه الغضب:
· هل من سائل حاجته إن الوقت يمر؟
و لم يلحظ الجني أن كلا منهما يريد أن يتأخر لنيل الضعف. و مع ذلك حذر بأنه لم يتبق من وقته للإختفاء عن نظريهما إلا لحظات معدودة مجددا القول:
· أسرعا و إلا فوتما الفرصة عليكما
و لم يكد الجني يفرغ من كلامه حتى تقدم أحد الاثنين و قال:
· أريدك أيها الجني أن تفقأ عين مواطني هذا العنيد!
و لم يكد ينهي حتى كان له ما أراد ففقأ عين مواطنه ثم التفت إليه ففقأ عينيه و طار.
تحضرني هذه القصة و أنا أتابع ما يجري في ساحتنا السياسية من فقاعات الغياب الميداني فوق رؤوس الشعب و من خلافات و ملاسنات و مهاترات و سَحْب للبُسُط ما أمكن من تحت الكل في فوضى عارمة و غياب الوطن مفهوما و غاية. لا أحد و لا حزب و لا فاعل من أي نوع يهتم بالكيان و وحدته و بنائه و استقراره.. كُل يريد أن يحصل على ضعف ما يحصل عليه غيره إن كان لا بد أن يحصل عليه بجواره.
و يتجلى هذا الوضع السياسي بالدرجة الأولى في حصر البلد داخل زاوية ضيقة من التخلف المزمن عن البناء بإذكاء نار الاعتبارات الفتاكة من قبلية و عشائرية و طبقية في نسيج هش. فالواقع يشي بأمرين:
· أولهما ظهور طبقة من الأثرياء تمتلك:
o الأموال الطائلة المكدسة دون استثمار،
o والعقار المنتزع أغلبه على حساب الخطط العمراني و إدارة العقارات،
o و الماشية دونما تنمية علمية تعود بالفائدة على الدولة،
o المساحات الزراعية على ضفة النهر بأسوء استغلال و في حوض من الفقراء من السكان أصليين،
o واحات النخيل التي لم تعد أكثر من منتزهات عقيمة؛
o والمصارف تحت ألف غطاء و غطاء، من المحسوب على المعاملات الإسلامية و ما ذلك بحق إلى الشعبي لفظا و غطاء لكل أنواع تبييض الأموال، مرورا بالتي تخدم المصالح الغريبة على البلد و المترصدة مداخله من معادنه و بتروله و سمكه و زراعته؛ طبقة على قلة أفرادها ليس لها في خلق صناعة محلية حتى في الطور التحويلي و لا في الاستثمار فيما يضمن للشعب عملا و تكوينا و تأطيرا وللبلد تنمية ورخاء،
· و ثانيهما غياب طبقة متوسطة تمتص بعض هذا البلاء و إن لا وجود ميدانيا لما يؤهل هذه الطبقة للإنبثاق و لعب دور في استقرار البلد على وتيرة من النمو مهما قل شأنها، لأن الكسل العام و الإتكالية المزمنة و المحسوبية و غيرهما من أسباب التخلف كلها عوامل مساعدة على قيام هذا الواقع المزري.
هو إذا واقع مزدوج ينمي في الشعب إحباطا لا تخطئه مطلقا أعين المراقبين الذين يضعون ألف علامة استفهام أمام تناقض البلد الشديد: ثروات طائلة و مقدرات هائلة و شعب متخلف و واقع تنمية ضعيف.
و لعل الإثنين الذين فقدا أعينهم من غل و حسد و جاهلية قد ركبا متن السفينة من احد موانئنا على أغنى شاطئ في العالم بالأسماك و البترول و الغاز و ثروات أخرى.