انتظرت – مثل غيري – ذلك المؤتمر الصحفي الذي أعلنته الرآسة في أعقاب أطول زيارة يقوم بها رئيس داخل الوطن، وكنت أنتظر أن يقدم الرئيس حصيلة الزيارة من المشاريع المدشنة وتلك المنشأة من جديد ، غير أن ذلك لم يحدث منه شيء فكان المؤتمر الصحفي عبارة عن ترديد مقولات سابقة
وتكريس لصورة الفرد الممسك بتلابيب الحياة الإدارية للدولة من أبسط الأمور إلى أعظمها .
دارت في المؤتمر الصحفي أمور تستحق كلها أن يتوقف عنها رصدا وتحليلا ونقاشا ومراجعة بدءا بقضية اسنيم – التي يبدو أن الرسالة الأهم من المؤتمر هي بث اليأس في نفوس عمالها المضربين – وليس انتهاء بتعديل الدستور وقضايا المعتقلين داخليا وخارجيا والمفقودين والمفصولين من العمال وغيرهم ؛ غير أني سأركز على تلك الجملة التي تركت جرحا غائرا في جسم الحرية التي يتشدق بها النظام وهي جملة : أوفقوا البث ، اطف التلفزة ، انسحب كاملين ، وسأقف معها في نقطتين : سياق الورود ، والدلالات .
1- أوفقوا البث .. سياق الورود :
وردت هذه الجملة على لسان رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز في مستهل مؤتمر صحفي عقد في القصر الرآسي عقب زيارة قام بها الرئيس للولايات الشرقية وبعد مشادات مع الصحفي أحمدو ولد الوديعة إثر طلب الصحفي نقطة نظام ، هذا هو السياق الخاص ، أما السياق العام فهو ورودها في ظرف يجري الحديث فيه عن حصول موريتانيا على المرتبة الآولى عربيا في حرية الصحافة ، وفي ظل تزايد الحديث عن قرب انطلاق حوار شامل ، هذا الظرف الخاص والعام أعطى لهذه الجملة القصيرة أهمية قصوى دفعت الكثيرين للحديث عنها والتعقيب عليها والبحث عن دلالاتها الواضحة وغير الواضحة ، وهو ما سنقف عنده في النقطة الموالية .
2- أوقفو البث.. الدلالات :
صدور هذه الجملة من أعلى شخص في هرم السلطة وعلى الهواء مباشرة مع تشنج ونرفزة كبيرين يعطي كثيرا من الدلالات غير الإجابية في عمومها ومن هذه الدلالات :
- خفة وضيق أفق :
أظهرت هذه الجملة الصغيرة مدى الخفة التي يعاني منها رأس النظام في تعاطيه مع الأمور ؛ إذ من المعروف أن من سمات رجل الدولة الأناة والتروي لا للعجلة في التصرف خصوصا في أمر لم يتبين بعد أمره ؛ كما أنها أظهرت شدة ضيق أفق النظام ؛ حيث بدا أن رأس النظام لا يفكر في عواقب تصرفاته ويتعامل مع اللحظة بغض النظر عن المآلات ، هذه اللقطة لها نتائج وخيمة على صورة البلد وسمعته ؛ وهو ما كان على رأس النظام أن يفكر قبل أن يتفوه بمثل هذه العبارة وعلى الهواء مباشرة حيث يجلس الجميع أمام التلفزة .
- أكذوبة استقلال وسائل الإعلام الرسمية :
أظهرت هذه الجملة أن سنفونية استقلال وسائل الإعلام الرسمي التي دأب النظام وعازفوه على العزف على أوتارها كذبة كبرى ؛ حيث رضخت التلفزة مباشرة للسلطة التنفيذية وبدون بحث عن غطاء لهذه الخضوع المدوي والمخجل إذ لو كانت هذه الوسائل حقا مستقلة وتتمع بالاستقلالية الحقيقية لما رضخت لهذا الامر المباشر الفج الذي أظهر الأمور على حقيقتها ونزع عنها كل أنواع الرتوش التي تجعلها السلطة علي وجه وسائل إعلامها ...
كان حريا بالتلفزة أن تواصل البث ولا تقطعه فذلك يصون لها ماء وجهها ويجعلها تبدو وكأنها مستقلة وإن كان الجميع يعرف أنها لا تعرف من الاستقلال إلا اسمه ، ولا من المهنية إلا حروفها ، ولا من الحياد إلا رسمه فقط .
- دولة الأمر المباشر:
أظهرت هذه الجملة العقلية التي تدار بها شؤون البلد و أجابت عن السر الكامن وراء ضعف كثير من شؤون إدارتنا المهترئة ؛ حيث ظهر أن الدولة تدار بطريقة الأمر المباشر لا تخطيط لا تفكير لا دراسة لا استشراف لا نقاش لا حوار لا مراجعة ، كل شيء بالأمر المباشر ومن رأس النظام ...
إن إدارة الدول بطريقة الأمر المباشر كفيلة بجعل هذه الدول تنهار في جميع النواحي؛ ذلك أن الأمر المباشر منوط في غالب أحيانه بالانفعال والاستجابة لمثيرما ؛ وهو ما يجعل نتائجه سلبية دواما حتى و إن بدت في بداية أمرها إيجابية، وإلقاء نظرة سريعة على جملة من قرارات الأمر المباشر التي قام بها هذا النظام كفيلة بتصديق هذه المقولة ، لننظر مثلا إلى إنشاء مجموعة من المقاطعات والولايات التي أنشئت بالأمر المباشر ما ذا كانت نتائجها ؛ غير هدر المال والفساد والمحسوبية والزبونية فلم يستفد منها المواطن قربا في الإدارة ولا تحسنا في الخدمات ولا جودة في المخرجات ولا تحسنا في الظروف المعشيشية للسكان ، ولننظر كذلك بعض الصفقات التي منحت بالأمر المباشر هل أنجزت المشاريع التي منحت عن طريقها أم أنها مازالت من تعثر إلى تعثر ومن فشل إلى فشل ومن تقهقر إلى تقهقر ...
إن دولة الأمر المباشر هذه لا يؤمل منها أي خير في أي مجال ، ولا يعول عليها في إنجاز أي تحسن في أي مجال ، ولا ينتظر منها تقدم على أي محور من محاور التنمية الكبرى وهذا أمر مقلق جدا ..
هذه العقلية الأحادية في التفكير والتنفيذ والأمر تجعل مستقبل هذا البلد غامضا وغير مبشر وتجعل من المستبعد الوصول مع هذا النظام عن طريق الحوار إلى أي حل يخرج البلاد من أزمتها المستفحلة وعلى كل الجوانب ؛ لأن من تعود على إصدار الأمر المباشر والطاعة المباشرة لأوامره المباشرة – وغير المبشرة – من الصعب أن يقبل بحوار يراجع فيه ويناقش وترد حججه وتنقض أدلته وترفض أوامره وهو ما يهدد أي حوار مع هذا النظام الذي لا يريد من الحوار إلا مايضمن له البقاء في السلطة ، والبقاء في السلطة فقط .