من المعروف بداهة أن الدور الذي تلعبه نقابات العمال وبقية النقابات المهنية و مدى تأثير هذا الدور وفاعليته في عملية التطور والبناء هو ما يجعله محوريا في حياة البلدان الحديثة ويضمن استقرارها. و لا يخفي أيضا أن هذا الدور الجوهري هو الذي يوطد أسس بناء المجتمع المتماسك
في سيره الحثيث إلى التقدم. و ما تجارب حركات النقابات العمالية في أوربا و أمريكا و بقية أنحاء العالم بالطبع التي نجحت في أداء أدوارها إلا دليلا ساطعا على قدراتها المؤثرة في مجال حماية حقوق العمال وتنمية الاقتصاد الوطني و رفاهية المجتمع.
كما تلعب النقابات دورا بارزا على المستوى القانوني فتكمل ا لنقص الموجود في التشريع وتساعد على عمل تشريع العمل. و هو الدور الذي لا يقتصر على العمل القانوني بل يتعداه إلى العديد من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية و منه قيام النقابات على حماية العمال لتفادى المنازعات بين العمال وأصحاب الأعمال والسهر على مصلحة العمال وضمان المساواة.
إذا كانت القضايا النقابية "مسيسة" في هذه البلاد فإن السياسة هي الأخرى لا تخلو من "النقابية" في الرؤى و الممارسة.
و ما المعالجات السياسية و النقابية المسيئة هذه الأيام لفحوى و منحى الإضراب الذي دخل فيه عمال شركة "اسنيم" منذ أزيد من ثلاثة أشهر إلا دليلا على ذاك التداخل الأهوج و ذلك التناقض السافر في الأهداف التي يسعى كل طرف إلى تحقيقها دون الاكتراث الفعلي بمصير العمال من ناحية و بقاء الشركة "ركن اقتصاد البلاد الأول" الذي و إن احتاج إلى الإصلاح الجذري يظل الموفر لمداخل إقامة البنى التحتية الضرورية لحركة التنمية المتعثرة علاوة على احتضان الآلاف من المواطنين و أسرهم و حمايتهم من صروف الدهر.
و يبقى الأدهى و الأمر خلال هذه الوضعية المزرية أن هذه الحقيقة المرة لا تبدو لافتة و كأنها أمر طبيعي في مسطرة مسلكياتنا - النقابية/السياسية أو السياسية/ النقابية من دون إستثناء - هي التوجه المحسوب في ازدواجية خرقاء من صمم و باهتة من سقم على عقلياتنا التي مازالت عصية على القبول بمفاهيم العصر و اعتباراته الجديدة في تنمية الدولة على أساس اضطلاع كل مؤسسة - إذ الأحزاب و النقابات مؤسسات مركزية و أطراف معنية - بدورها و تلاقيها في كل أدوارها عند نقطة حفظ الوطن. حقيقة مرة تقتل كل أمل في قرب الاصطفاف إلى جانب الدول التي تفصل بوعي تام بين العمل النقابي و النشاط السياسي مع اعتبارِ ثم حفظِ الهامش "المُوَفِق بينهما و بما يخدم الحركة العمالية مجسدة في نقاباتها التي تتولى المطالبة في حينها بحقوق العمال المشروعة من ناحية و السياسة مجسدة في أحزابها و كل أطرها الأخرى.
و فيما يخص الشروط الموضوعية المساعدة على بناء علاقة حيادية سليمة بين الأحزاب والنقابات فإنه مما لا شك فيه أن هذه الشروط إلى ذلك تكاد تكون مفتقدة في البلاد حيث نجد أن التشكيلات السياسية تسعى باستمرار إلى جعل النقابات تابعة لها أو أنها تنشئ نقابتاتها الحزبية. و هو الأمر الذي يتطور إلى قيام البعض من النقابيين بإنشاء أحزابهم كذلك انطلاقا من النقابة نفسها. وهذه الممارسات ذات الطابع الحزبي، هي التي تجعل العلاقة بين الحزب والنقابة متناقضة، ملتبسة و غير سليمة، بيد أن الشروط الموضوعية، التي ما كانت إلا لتجعل العلاقة بين الحزب والنقابة خالية من كل أشكال التحريف تتلخص تقريبا فيما يلي:
ـ إرساء الاحترام المتبادل بين النقابة، والحزب، على جميع المستويات.
ـ التشبث بالنشأة على الديمقراطية في الحزب، وفي النقابة، على حد سواء، حتى تنبني العلاقة مع الآخر و تظل على أسس هذه الديمقراطية.
ـ الاحترام المتبادل للمبادئ الحزبية، و المبادئ النقابية، على حد سواء.
ـ الاهتمام المشترك بين الحزب، والنقابة، بالعمال والمأجورين عن كثب و بانتظام حتى يتم التوافق بينهما قائما على أهم القضايا و المستجدات و في الميدان الجماهيري.
ـ وجود قواسم مشتركة بين البرامج الحزبية، والبرامج النقابية، يمكن أن تعتمد في القيام بالعمل المشترك، من أجل تحقيق الأهداف المشتركة.
ـ أن يكون الحزب حزبا للطبقة العاملة، أو حزبا تقدميا، أو يساريا، أو ديمقراطيا، حتى يصير برنامجه النضالي، في خدمة البرنامج النضالي للنقابة، ومن أجل أن يصير البرنامج النضالي للنقابة، في خدمة البرنامج النضالي للحزب.
ـ أن يكون فكر الحزب و خطابه معبران عن مصالح العمال، وباقي المأجورين، و غيرهم من الكادحين، أو توجد بينها، وبين الأيديولوجية المعبرة عن مصالحهم، قواسم مشتركة.
ـ أن تحقق الأهداف الإستراتيجية للحزب، في حالة وصوله إلى السلطة، طموحات الإنسان، والديمقراطية، وتضع حدا للاستغلال المادي، والمعنوي للعمال، وباقي المأجورين، وسائر الكادحين في ظل قوة القانون.
ـ أن يساهم النضال النقابي، في إطار النقابة، التي تحترم في إطارها مبادئ العمل النقابي، في إعداد الشروط الموضوعية، لتفعيل الحزب أيا كانت توجهاته الفكرية و فلسفته النضالية.
و لا شك أن وضع هذه الشروط قد يؤدي إلى ترسيخ العلاقة المبدئية السليمة بين الحزب، والنقابة، وترسيخ هذه العلاقة و يضمن قوة الحزب، وقوة النقابة التي لا يمكن أن تكون إلا ضمن مصلحة المجتمع كله.
ولحماية العلاقة الموضوعية بين النقابة والحزب لا بد من القيام بعمل حزبي ونقابي مشترك كل ما كان ذلك ممكنا لخوض الصراع الموضوعي ضد:
ـ الممارسة الانتهازية للحزبيين، العاملين في النقابة، وللنقابيين اللامنتمين، باعتبارها هي المسببة لكل أشكال الانحراف، التي يعرفها العمل النقابي، في إطار النقابة المبدئية.
ـ الممارسة الإدارية، التي تتخذ أشكالا متعددة، والتي تقطع الطريق أمام ديمقراطية النقابة، وتقدميتها، وجماهيريتها، واستقلاليتها، ووحدويتها، مما يجعل العمل النقابي الذي يجري في إطارها ينحرف إلى خدمة الجهاز الإداري.
ـ تبعية النقابة لجهة معينة، تتلقى منها التوجيه، من أجل القيام بالعمل النقابي، المناسب لتلك الجهة، حتى تستطيع التأثير في العمال، وباقي المأجورين، وسائر الكادحين، من أجل جعلهم تابعين لها، عن طريق التبعية للنقابة.
ـ حزبية النقابة، التي تجعل الحزب يخطط لها، ويضع برامجها، التي تعتمدها، للعمل في صفوف العمال، وباقي المأجورين و غيرهم من الكادحين الذين يصبحون بانخراطهم في النقابة جزءا لا يتجزأ من الحزب.
هي فقط مطالبة تمليها تداعيات أزمة "اسنيم" من جهة و غموض المعطيين النقابي و السياسي حولها، لمراجعة ما هو قائم من وضع ثلاثي التأزم حول قضية "اسنيم" و تداعياته من جراء:
- نقابية موزعة بين المد السياسي الحشري و ضعف أداء الدور في سياقاته الطبيعية و،
- سياسية مقسمة هي كذلك بين الميل إلى النقابية و تعثر الدور المنوط بها و،
- إدارية لشركة تسعفها في عراكها مع العمال ثنائة التسييس السلبي و العمل النقابي المشوش،
على خلفية اعوجاج من تداخل الأدوار في سلبية الأداء و سوء تصور المطلوب حيث غياب الدولة فيه و اضمحلال مصالح المواطن و ضعف دعائم العدالة الاجتماعية و الوحدة و الوئام و البناء الذي هو غاية الحفاظ على توازن الكيان و حمايته من الزوال في عصر لا بقاء فيه إلا للمتماسك الواعي و القوي الواثق.
فمتى يزول هذا التداخل السلبي في الأدوار؟ و متى تتضح الأدوار و تأخذ الأمور النضالية كل من منظوره وجهته الصحيحة؟ و متى ترتسم بوضوح نقاط التلاقي بينها و مضامين ذلك و حيثياته و مواقيته حتى يؤتي العمل المشترك ثماره خدمة نقابية أو سياسية لمسار الوطن الديمقراطي؟