رسائل قطع البث / محمد الحافظ الغابد

الأصل في الأنظمة الاستثنائية قطع البث فأول ما يبدأ به الانقلاب العسكري الذي تنبع منه السلطة في بلادنا هو السيطرة على الإذاعة والتلفزيون وتوقيف المسطرة المعتادة..ريثما تتضح بوصلة السلطة وتتم تهيئة البيان رقم واحد.
في حوار الرئيس مع الصحفيين يشير الغضب العارم للرئيس

إلى أن بث الشعب الموريتاني لهمومه وشجونه يتحول في الكثير من الأحيان بوصفه فعلا إلى رد فعل لدى السلطة وقد يكون من أهداف المؤتمرات الصحفية وردود الرئيس التشويش على هذا البث وإذا لزم الأمر قطعه كردة فعل لأن سلطتة القائمة الآن تأسست منذ لحظاتها الأولى على ردة الفعل..هكذا قرر الرئيس الحالي يوم سئل عن سبب وضع حد لمأمورية أول رئيس مدني منتخب من الناحية الشكلية والتقنية في مسار ديمقراطي توافقي.
ما الذي استفز فخامته؟
أكثر شيء يثير الفضول في قضية أمر الرئيس بقطع البث هو تصوره للسلوك التالي لقطع البث ماذا كان بوسع الرئيس أن يفعل.. من الواضح أنه كان سيطرد بعض ضيوفه المدعوين بالقصر الرئاسي محل إقامة الرئيس وساعتها يكون قد مارس فرزا مشينا وسيشكل هذا السلوك فضحية سياسية وإعلامية مدوية .. غير أنني وبعد أن تصفحت في اليوم التالي المؤتمر الصحفي للرئيس اتضح لي أن الرد القوي الذي تقدم به وديعة بأدب وظهور صورته في الشاشة أمام الرئيس يؤكد سعة صدره ورفضه الانسحاب ويعلن استعداده لطرح الأسئلة إضافة لحديثه في المكرفون كلها عوامل ساهمت استفزاز الرئيس المغضب من تقارير إعلامية في وسائل الإعلام المستقلة عن سلطته فكان صدور الأمر الصارم .. بإطفاء التلفزيون .. الذي يعبر عن ومضة تاريخية مؤثرة.. ثمة تباين في أنماط الشخصيات تكوينا ودورا ووظيفة .. في تلك الأمسية تسللت لحظة سوء لتثير سورة الغضب الكامن في نفس تسلطية .. ظهر ارتباك الرئيس وخارت براعته في المناورة أعاد طرح أسئلة مهمة.
من أعطاك الحق؟
سؤال جوهري تأخر قرابة ثماني سنوات حتى يتهذب المنطق العسكري بمنطق الدستور والقانون والاجتماع والسياسة يشبه السؤال إلى حد كبير منطق "فهمتكم" الشهيرة على لسان الجنرال بن على .. مصدر الحق يظل استحقاقا تاريخيا لابد من الرجوع إليه وحده دون التأثير بأي عوامل أخرى تتعلق بمجرد القوة الغاشمة وفرض الإرادة الأحادية .. لعل أهم انجاز لتلك اللحظات هو اطلاقها لهذا السؤال التاريخي إني أوافق الرئيس على 90% بالمائة من منطقه هذا شريطة تطبيقه على الكل بما في ذلك حقه شخصيا في ما يطالب به من حق لنفسه فشرط النهاية تصحيح البداية.. سيقول السفهاء إن هذا منطق السياسة بينما السياق سياق صحفي إعلامي وليس من وظائف الصحافة المحاكمة على هذا النحو .. ولكني أجيب بأن وقاحة المستولي على حقوق الشعب المغتصب لحقوق الأمة هي التي تجعله يقع في فخ الطغيان والصلف والاستبداد.
طحن الخصوم        
لا يهم الحكام الأغبياء عادة غير طحن خصومهم ولكن من يرزق العقل منهم يتكيف ويتجاوز اللحظات المحرجة محتجنا غضبه لفرص أخرى لافتراس ضحيته تلك سنة السلطة وقانون الغاب الذي تبقى بصمات منه وومضات في السلط البشرية والتجربة الإنسانية بحكم عوامل نفسية واجتماعية عديدة.
ضيق بالبث
لكن أهم ما يؤشر إليه هذا السلوك الرئاسي هو أن ثمة ضيقا ببث الشعب لهمومه وشجونه وثمة تبرما واضحا من الحصيلة الهزيلة للسبع العجاف التي قضاها الرئيس وهو يعد ويمني شعبه بإنجازات تحولت إلى سراب خادع يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .. ووجد الله عنده فواه حسابه. نسأله حسن الختام لكل مسلم.
لقد وضع الرئيس كامل جهده في عدة مشاريع يحاول من خلالها صناعة معجزة تقنع الشعب به رئيسا لعدة عقود اعتمادا على شرعية الإنجاز لكن من الواضح أن ركام سنوات الفشل الذريع في انجاز مشروع واحد هو من الأمور التي تسبب للرئيس الضيق والكآبة فآماله العراض تحولت إلى خيبة أمل ملازم واحتقاره للمتخاذلين من حوله يتسع شيئا فشيئا.. لم ينجح مشروع المطار وارتبكت نشأة المقاطعات العديدة وشبكة الطرق فضحتها عيوب قاتلة وأوضاع البلاد تزداد سوء وكلما أنفقت أموال في بناء أي منشأة ظهرت قزميتها وعيوبها وأنها أنجزت بأسوأ الطرق وأردأ الأدوات فيما الأموال تبخرت والعالم يمر بأزمات في الحصيلة لم ينجز الرئيس أي مشروع تاريخي يخرس الخصوم المتربصين ويغذي عزيمة الرئيس ودعايته السياسية المتعثرة في أكثر من مجال.. خارت قوى الرجل الذي ينظر إلى آفاق يبغي الوصول إليها ولكن مكينة الفساد العشائرية وشلة الأصدقاء تقعد به عن الوصول لطموحه في بناء جديد يقنع به العباد زعيما تاريخيا مؤسسا.. صناعة الفرق التاريخي تحتاج أكثر من نية طيبة تحتاج صدقا ومصداقية واستثمارا يتجاوز الحرص والجوع وكنز مال الدولة لخدمة الأقربين..عشيرة وأصدقاء.
مناورة خادعة
مناورة الإجابات عن العديد من الملفات جاءت مخاتلة تتسلل بين الألغام ورغم إتقان الرئيس لفن المناورة في حوارات سابقة لكن لياقته النفسية هذه المرة كانت مصابة في مقتل نتيجة الضيق بالرأي المخالف ولاشك أن ثمة عوامل هي التي أهاجت كل هذا الغضب العارم لدى صاحب الفخامة.
الحديث عن اسنيم والأسعار نال حظه من القفز على الحقائق المستقرة وحاول الاتكاء على مسلمات بلا أسس في الواقع الفعلي لدنيا الناس مما افرغ حديث أهم شخص في هرم السلطة بل هو السلطة من محتواه وجعله بلا مصداقية.
وعظ بأي كلام!
خلال الخرجة الإعلامية أخذ صاحب الألقاب المتعددة دور الواعظ أكثر من مرة وخصوصا عند حديثه عن دور وسائل الإعلام التي يبدوا أن دورها في تغطية الأحداث الوطنية لا يعجبه هو يريد أداة تغطية على العيوب وطرد لخصومه والرأي المخالف مع أن أغلبها يلاين ويصانع ويتكيف مع السقف النسبي  للحريات في البلاد.. ذلك أخف ما يصلح توصيفا مجاملا لواقع كالح تحولت فيه المؤسسة الإعلامية الخاصة محابية وملكية أكثر من الملك!
لأول مرة تحدث الرئيس في مؤتمر صحفي وهو مستفز وخرج عن حالة الانضباط الذهني فكانت فلتات من أهمها أن حديث العقيد الشيخ ولد باية عن امتلاكه المليارات كان حديثا في سياق موسم الكذب الانتخابي وهو اعتراف رسمي بأن الوعود التي قدمها سعادته خلال المأموريات كانت كلاما انتخابيا كأي كلام!.
    لكن رئسينا الموقر لم يأخذ بنفس المنطق كلام الإعلام هو الآخر .. الذي يوصف في دارج المزاج الشعبي العربي بأنه .. "كلام جرائد" وظهر غاضبا من الصحافة إلى حد كبير ! مع تأكيده أنه لا يرد على: قالوا .... وقيل.. وهذا درس انضباطي تطبقه فخامته فرارا من الحرج ..
شجاع إذا أمكنتني فرصة.. فإن لم تكلي فرصة فجبان
كما يؤثر عن عمر بن العاص.

4. أبريل 2015 - 13:28

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا