في أحد أيام يونيو الصيفية القائظة منذ سنوات مضت حدث أن استيقظت مدينتي على حدث هام و بقدر أهميته يكون الألم المترتب عليه، كانت بداية اليوم قبل أن يعلم الجميع بتفاصيل الحدث صباحا في السوق حيث التجمع الجماهيري، حيث يلتقي الجميع وتبدأ عملية تبادل الأخبار الطيب منها والحزين ،
التافه منها والمهم، لكن حدثنا اليوم سيكون الأكثر أهمية خلال ذلك الأسبوع والذي يليه وربما الشهرين المواليين. كانت فتاة فاتحة البشرة قليلا ، عركتها الأعمال اليدوية الصعبة ، حولها رعي الغنم وجلب الماء إلى إنسان بلا إحساس، بل لنقل صارت آلة يُضغط على زر التشغيل فيتم تنفيذ الطلب دون تردد، إنها " السالكة " ، فقط هكذا عرفت عن نفسها ولأنها ببساطة كما تقول لا تعرف شيئا عن أبويها وهي التي تبلغ ساعتها حوالي الخامسة والعشرين، تواصل القول، لقد وصلتُ ليلا بعد أن تعبت من العمل نهارا ولم يعد بمقدوري المواصلة، لكنهم لم يصدقنني وبدأ أبنائهم يضربونني ويهينونني، لكن في تلك الليلة و بشكل مفاجئ قررت أنني سأهرب، سرت ليلا بعد الإنتهاء من كل " واجباتي " سرت وواصلت السير في اتجاه ما قيل لي إنه مدينة بها أناس سيحمونني من ما عانيته من الضرب والإهانة حتى وصلت وأنا الآن بينكم .
الكارثي في الأمر أن هذه السيدة بعد أن وصلت المدينة قَدِمَ في إثرها أسيادها للمطالبة بها بل بلغ بهم الأمر أن ذهبوا لفرقة الدرك للمطالبة باستعادتها فلم تزد أن قالت لهم عودوا من حيث أتيتم، هكذا وبكل بساطة!
تذكرت هذه القصة الطويلة والتي اقتصرت على القليل من أحداثها و أنا أقرأ بيان " رابطة الأئمة الموريتانيين " القائل بأن لا عبودية شرعية بعد اليوم، تذكرتها وأنا أعرف أن أحداثا مشابهة بل و أقسى وقعا لا تزال تحدث إلى اليوم في المناطق حيث يتلاشى نفوذ الدولة ويحضر نفوذ القبيلة، حيث تسود إلى حد بعيد لغة القوة والظلم، و حيث تكون سلطة الدولة الموريتانية مسخرة لخدمة شيخ القبيلة يبطش بها أينما أراد.
هذا البيان أو الفتوى الذي هلل لها الكثير باعتبارها المخلص من العبودية التي لطالما أنكرها النظام الموريتاني لكنه في نفس الوقت يسن القوانين وينشئ المحاكم لمحاربتها غير مدرك أنه يكذب نفسه بنفسه دون أن يشعر ، وذلك بطبيعة الحال عائد إلى غبائه وجهله بكيفية معالجة أكبر معضلة اجتماعية تعانيها الدولة الموريتانية منذ ما قبل نشأتها إلى اليوم وهو بذلك يوفر على الحقوقيين عناء إثبات وجود العبودية من خلال إجراءاته المتلاحقة والتي توضح أنه بات محشورا في الزاوية و أصبحت قوانينه دفاعية ومحاولة لرفع التهم أمام العالم والمنظمات الدولية ذات التأثير الكبير.
صدرت فتوى الأئمة إذا والذين لطالما ماطلوا في إصدارها عندما طالبتهم المنظمات الحقوقية به، لكنهم في نفس الوقت غير قادرين على أن ينفوا تلك الشرعية التي اتخذها سابقيهم شماعة لاستغلال بشر مثلهم، إنما بالنسبة لهم ذلك جيل قد قضى ويجب ألا يُدان ولا يُنتقد نظير ممارساته التي لا تزال تكبل جزءا كبيرا من المجتمع الموريتاني ، تلك النقطة التي يجب أن تكون المنطلق لأي مصالحة وطنية حقيقية تنصف الجميع وتسمح بأن يكون هناك تعايش حقيقي قائم على الإحترام المتبادل بدون إقصاء ولا تهميش ذلك الوضع الذي لن يتأتى إلا بإتاحة الفرص لكل المتضررين من هذه الظاهرة ووضعهم في ظروف تسمح لهم بالإستقلال ماديا ومعنويا.
إن محاولة اعتبار هذا البيان أو الفتوى قد حل وعالج جميع المشاكل المتربة على العبودية يعتبر نوعا من التجني على من خضع لهذه الظاهرة المقيتة من قبل وبالتالي تجنٍ على الدولة الموريتانية بكل تأكيد، خاصة حينما يواصل هؤلاء الأئمة وغيرهم ممن يوافقهم الرأي في اعتبار المدافعين عن حقوق الإنسان أشخاص انتهازيين وذوي أطماع مادية بحتة ومثيرين للنعرات ومهددين " للسلم الأهلي " إلى غير ذلك من الأوصاف، بدل أن يتم احتواء هؤلاء الأشخاص والتعاون معهم للقضاء على هذه الظاهرة وما يمكن أن تخلفه من مآسي اقتصادية واجتماعية جمَّة.
ومما يأخذ على هؤلاء " الأئمة " في فتواهم أنهم ابتلعوا ألسنتهم طيلة السنين الماضية ولم يسمع لهم إلا الهمس خوفا من أن يدينوا آبائهم الذين أصَّلوا وأجازوا هذه الظاهرة خلال السنين الماضية ، وهم بذلك لا يريدون أن يظهر بمظهر من ينتقد أباه على عمل شنيع استخدم فيه الدين بشكل بشع في حين يتنافى مع جوهره ورسالته السامية التي يدعون أنهم حماتها.
ما أريد التنبيه له هنا بشكل مفصل هو أن هذه الفتوى جاءت متأخرة كثيرا عن وقتها وأصبحت بلا فائدة، فلا الحقوقيين باتوا ينتظرون إصدارها لأنهم اتخذوا مواقفهم من فترة وبنوا عليها خطواتهم اللاحقة التي جعلت رابطة الأئمة تصدر هذه الفتوى، ومن ناحية أخرى يعتبر غير ذا فائدة لأن شيوخ القبائل أصبحوا بفعل الأنظنة العسكرية الدكتاتورية التي تخطب ودهم دولة داخل الدولة يحسب لهم ألف حساب ويسعى النظام جاهدا لإرضائهم خاصة في فترة " المسرحيات الهزلية " التي يسموها انتخابات ديمقراطية ، أصبحوا إذا غير خاضعين لأي قانون ولا رأي ولا فتوى فقهية من مجموعة من الأئمة تأتمر بأمر النظام العسكري تحلل له وتحرم حسب الطلب.
إن دولة لا تزال تصدر البيانات لتجريم ظاهرة اعتقد العالم أنها انقرضت في عصر العولمة والفضاء الحر الذي أصبح عصي على المراقبة إلى حد كبير لهيّ دولة بحاجة إلى مراجعة الكثير من الأسس والدعائم التي تقوم عليها، لأنها ببساطة شديدة تقوم على دعائم غير سليمة وسرعان ما ستنهار إن عاجلا أو آجلا ، ما لم يُبادر إلى ترميم تلك الدعائم ونعني هنا كل المجالات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية بشكل خاص ، حتى تتمكن الفئات المتضررة من الإنطلاق بشكل متساوٍ، ثم إنها فتوى ليس هناك من ينتظرها ولا من يعول عليها ليعرف أنه إنسان له حقوق أقرها الإسلام الذي أُتخذ سيفا مسلطا على رقبته ظلما.
وفي الأخير نخلص إلى أن الطريق نحو القضاء على العبودية أو مخلفاتها كما يحلو للنظام الموريتاني تسميتها ليس بإصدار الفتاوي في الوقت الضائع بل تفعيل القوانين الردعية ومواجهة ممارسي العبودية بحزم، أما غير ذلك فليس إلا محاولة لإطالة بقاء هذه المشكلة في زمن يعتمد على السرعة والإنطلاق نحو المستقبل بشكل مخيف.