"إن النخب جزء من المجتمعات، وطالما أن المجتمعات مهزومة نفسيا و متشرذمة فستعاني النخب من ذات المشكلات"
عرف القدماء اللّغة بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، و إن لم تستطع التعريفات الحديثة للغة أن تتجاوز هذا التعريف الموضوعي إلا أنهم أضافوا أنها نسق
من الإشارات والرموز، يشكل أداة من أدوات المعرفة. و بذلك تعتبر اللغة أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. وبدونها يتعذر نشاط الناس المعرفي. وترتبط اللغة بالتفكير ارتباطًا وثيقًا؛ فأفكار الإنسان تصاغ دومًا في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطني. ومن خلال اللغة فقط تحصل الفكرة على وجودها الواقعي. كما ترمز اللغة إلى الأشياء المنعكسة فيها و بتعريف آخر فاللّغة هي الإنسان، وهي الوطن والأهل، و هي نتيجة التفكير.. هي ما يميز الإنسان عن الحيوان وهي ثمرة العقل والعقل كالكهرباء يعرف بأثره، ولا ترى حقيقته . كما عرّف علماء النفس اللّغة، فرأوا أنها مجموعة إشارات تصلح للتعبير عن حالات الشعور، أي عن حالات الإنسان الفكرية و العاطفية و الإرادية، أو أنها الوسيلة التي يمكن بواسطتها تحليل أية صورة أو فكرةٍ ذهنيةٍ إلى أجزائها أو خصائصها، و التي يمكن بها تركيب هذه الصورة مرّة أخرى بأذهاننا و أذهان غيرنا، وذلك بتأليف كلماتٍ و وضعها في ترتيبٍ خاصٍ.
من مجمل هذه التعريفات القاصرة باعتراف علماء الاجتماع و البلاغيين و الفلاسفة و غيرهم من المهتمين بالمصطلح و دلالاته عن الإحاطة بمدلولها الشامل، تبرز أهمية التشبث باللغات و شرعية الدفاع عن مساحاتها في حيز تواجدها و إنتاجيتها الفكرية الثقافية و التواصلية العلمية.
و من هنا فإن معاناة اللغة العربية في هذه البلاد لا يقابلها إلا ما تعانيه بقية اللغات الوطنية من ضعف العناية و قلة الدفع. فمعاناة اللغة العربية تأتي من مستوين:
- أولهما مضايقة اللغة الفرنسية إلى حد سحب البساط من تحتها تعليما بجودته النسبية و تسييرا لشؤون البلد الإدارية و السياسية و الاقتصادية و في المعاملات الدولية
- و ثانيهما ضعف أداء النخبة، المتعلمة بدرجة عالية و مستويات أكاديمية، في ميداني الدفع باللغة إلى مستوى اللغات العالمة و العلمية ألثبوتي في حقل الأداء التعاملي بالندية معها أخذا و عطاء و في شتى المجالات الحيوية.
و هما المستويان اللذان قيضا اللغة و شداها إلا الخلف في ميدان السباق الذي نجحت فيه لغات كالماندران الصيني و الفيتنامية و السرلانكية و بعض لغات الهند كالبنجابية و الأردية و التاميلية و السنكرتية، و غيرها من اللغات كالسواحيلية في تنزانيا و بعض الدول الإفريقية و التي أثبتت كلها الجدارة و العلمية و الراصنة الأدبية و الفنية. و إذ العيب ليس مطلقات في لغة الوحي الرباني فإن أهلها و بالأخص منهم المتعلمون هم من منعوها من اللحاق بالعصر و أداء الدور المنوط بها؛ دور لا تنكره الحضارات التي اضطلعت على سعتها و قدرتها. و أما ما يخص موريتانيا فإنها زيادة على ما يجنيه أهل اللغة عليها في طول الوطن العربي و عرضه و في كل البلاد الإسلامية المتشبثة بها، لعبت في الأمر دورا كبيرا حيث اتجه بها مثقفوها إلى متاهات الخلافات "التمييزية" المتجاوزة و انصرفوا إلى ركن الأدب "الماضوي" إن جاز التعبير دون "الحديث" الذي يأخذ في انفتاح مطلوب و مشروع من العالمية من حوله و يعطي بسخاء لا أقدر عليه و لا أجود من لغة الضاد. و لم يعبأ هؤلاء بلغة العلم و الإدارة و الاقتصاد و التخاطب الدبلوماسي العامل بٍذور التبادل المعطاء في كل حقول الحداثة و عوامل تجسيدها على أرض الواقع. و لا أدل على هذه الحقيقة المرة من ركود الساحة الإبداعية و العلمية و ترجمة العطاء إلى دلالات حية و ثمار يانعة و قطاف باليد و العقل و العين المجردة، حقيقة يَدفنُ عنها الكثيرون رؤوسهم في التراب كالنعام حذر إدراك المخاطر.
و أما اللغة الفرنسية التي فرضت فرضا فإنها لم تقدم في الماضي و لا تقدم في الحاضر أي مستوى مقبولا من الرفعة العلمية للبلد حيث أن مستواها المتداول يكرس الصراع مع هوية البلد و يقلب تنوعها الإيجابي إلى مستنقع للخلافات البينية أكثر مما يشكل جسرا تعبر عليه اللغة العربية و أخواتها بالبلد إلى مستوى المسؤولية التاريخية المنوط بها لبناء الوطن القوي بعطاء لغاته العلمي و الثقافي و الحضاري الذي يصبح قائما آنذاك.
و لا يكاد دور المثقفين بها يتجاوز هو الآخر تكرار منحط إفرازات الثقافة الفركنفونية و غثائها الذي تشجعه الدولة الفرنسية المركزية حتى يحفظ لها في داخلها نقاء لغتها و صفاء ثقافتها و فيما تتكئ في ذلك على الأطراف التي تتغذى على الفتاة و غياب الهويات و اللهث وراء السراب.
وضعية مأساوية لبلد لا يبحث عن أسباب ارتكاس لغاته و انتصاب الحواجز النفسية بين مثقفيه و متعلميه و فسيفساء شعبه، و لا يستأنس بتجرد و بعد عن العقد بلغات العالم التي تخطت حاجز الاحتجاز و الارتهان للماضي الراكد و شباك المثقفين المتنازلين عن أدوارهم مقابل قصعة من متاع الدنيا. لا فعل يصرف في الحاضر لنصب رافعة الانتشال و لا حوارية حضارية يتطلبها الوضع القائم في ظل زحف العولمة التي تميع المائع حتى يتلاشى و تطرده من رحمة العلم و المتميز و العطاء فالبقاء.
فإلى متى يظل الوضع القائم مقبولا:
- بمثقفين اسما و نعتا و ما هم كذلك أداء و ريادة،
- و قياديين سياسيين اسما و وصفا و ما هم كذلك نضالا و عملا ميدانيا،
- نقابيين تعريفا و ما هم كذلك في ساحات النضال و انتزاع الحقوق و الحث على الواجبات؟
- و رواد مجتمع مدني تعيينا و تفويضا و ما هم كذلك توجيها و عناية و حماية.
أو لا تُلزم الوضعية، القائمة بهذا الوجه الناقط بسقمه إلى حد الصراخ، بتنظيم أيام تشاورية حولها وضعية مأساة للتعريف في كل لغاتنا الأم و المكتسبة بمصطلحات "المثقف" و "اللغة" و "الهوية" و "الوطن" و المضامين و الأدوار التي تنبثق عنها و تحديد المسؤوليات في جزئياتها التي تشكل قاعدتها الأولى و كلياتها التي تبرر المنطلقات و تعين أسباب المساعي و الأهداف النهائية داخل مرمى الكيان الثابث و المعطاء.