عاصفة الحزم أم العمل الذي يجب القيام به؟ / محمد محمود ولد بكار

للمرة الثانية، تتدخل السعودية خارج أرضها وعلى نحو غير مسبوق تجاه جاراتها: الأولى تجاه البحرين سنة 2013، والثانية والثالثة في اليمن 2015. لم يسلم التدخل السعودي، الذي لم يكن بأي وجه توسعيا، من انتقادات لاذعة، رغم أن هذه الانتقادات لم تقدر الخطر الملازم لتلك الأحداث حق التقدير.

مرة أخرى، يسعى التدخل السعودي، الذي لا يحمل أطماعا، لوقف تقدم خطر يتسلل عبر حركات متطرفة متاخمة لأرضها، آخذة في التمدد، وتملك ترسانة عسكرية هائلة، وأيديولوجيا عدائية، وتشترك مع جهود أخرى لغزو الاستقرار الذي يستهدف دولا من بينها السعودية نفسها. هذا الغزو يريد  إحداث انقلاب في المنظومة العقدية لهذه الدول: مركز تسيير العالم الإسلامي، ليس تسييره سياسيا، بل تسيير رموزه وأحداثه الدينية بشكل يلائم غالبيته.

 

عندما تقف السعودية في وجه هذا التمدد فإنها لا تدافع عن نفسها بقدر ما تحول دون تذويب غالبية المسلمين في مذاهب مختلفة تماما وعلى نحو راديكالي. هذا الاختلاف، في طبيعته الدينية وعمقه التاريخي، يعود لـ 1350 سنة تقريبا، وقد ظلت السعودية تسيره بشكل مباشر وتتحمل مسؤولياته منذ تسعة عقود. فكيف نتوقع تغييرا بهذا الحجم ـ يستهدف اقتلاع الجذور ـ دون ردة فعل منها.

 

صحيح أننا في منطقتنا العربية لا نحتاج إلى عمل ينضاف إلى فسيفساء المشهد الداخلي والحروب البينية، فقد طفح التشرذم. لكن السكوت على استفحال خطر على الأبواب (جدية محاولة بناء دولة شيعية لتقوية  محور يتأبط التوسع الطائفي ويسعى لحكم منطقة بما فيها السعودية نفسها) يعني -إضافة إلى أمور أخرى-  إطباق الحلقة على الأراضي المقدسة، ولا يمكن السكوت على ذلك بأي ذريعة كانت، بما هو خراب العالم الإسلامي وفناؤه، فالتناقض الكبير بين المذاهب، خاصة بالنسبة للسلوك الديني والشعائري، لن يسمح بالانتقال من طائفة إلى أخرى إلا بالقوة والقهر والاضطهاد والحروب الطائفية الدامية،  فكيف نتوقع مثلا أن نجلب 8  ملايين حجر إلي البيت لنسجد عليها أو لنلعن الصحابة في الحج؟..

لقد مرت على عالمنا الإسلامي عصور ومعارك سيئة، غارقة في الوحشية، ولا تضاهي شناعتها أي حرب في التاريخ. ولا يمكن قبول العودة إليها بأي ثمن، مع أن الأمر قد حسم.

إن السعودية بوقفتها هذه إنما تمنع العودة إلى ذلك التاريخ المرير، وفي ذلك مصلحة كل الأطراف، وبالتالي تكون حربها ضد هذا الزحف واجب ديني أو حرب مقدسة لحماية العالم الإسلامي من حروب أخرى أطول وأكبر وأكثر فتكا في منطقة ملتهبة أصلا وينتشر فيها السلاح بشكل واسع ومخيف، وبأيدي تنظيمات متنوعة ومتطرفة ذات برنامج لا يتضمن يقينا توسيع قاعدة التعليم، ولا بناء الحكامة، ولا تؤمن بأي شكل من أشكال حرية الاختلاف المذهبي، وتعمل في نفس الوقت لصالح الأجنبي، ولا تنمو أو تزدهر إلا في كنف الفوضى. إن وصول هذه التنظيمات إلى السلطة لا يعني في أبهى تجلياته إلا قرونا من الظلام وبحورا من الدم، وإن بقاءها في المنطقة لا يعني هو الآخر سوى مزيد من الإخلال بالسكينة والأمن، فلابد -والحالة هذه- من جرفها: أي قطع دابرها لا سلافتها.

إن الهَبّة السعودية هي لأجل منع قلب الموازين في اليمن لصالح تلك التنظيمات التي تعمل دول أخرى على خلقها وضمها بالتالي  للخط الشيعي المتنامي في المنطقة {العراق، سوريا، لبنان، البحرين، الكويت، وفي السعودية نفسها} المناهض لحكم السنة وسيطرتها على الديار المقدسة.

إنها خطوة نحو إحلال الصفوية محل الوهابية والشيعة محل السنة، دفعة واحدة وبدعم من دولة واحدة، أيمكن اعتبار ذلك  إلا عملا عدائيا وطائشا.

إن إيران -عكسا لما كنا ندعمها عليه في أعماقنا كدولة إسلامية تملك أسلحة ردعية وايديولوجيا تقدمية وصدامية ضد غطرسة الغرب- وجهت سهامها نحو صدورنا وأحالتنا اليوم، بدعمها لحركات تابعة لها، إلى التفكير فيها ضمن الدول التي تملك مخططات عدائية ضدنا ومفعمة بالأطماع والطموح لزعزعة أمن منطقتنا، كما سينمي نشاطها هذا  العداء المطلق بين الشيعة والسنة؛  الأمر الذي وضع له التاريخ حدا وسياقا معينين كان ينبغي الوقوف عندهما، أو تركه في حدود الفذلكة الفكرية، لا تنشيطه بالحروب والسلاح.

 

إن جهود إيران العديدة لركوب موجة الفوضى التي تغمر منطقتنا ليست ودية، بل عملا موجها لخدمة أهداف جعلت الموقف السعودي طلائعيا وبطوليا وتاريخيا، بل يستسقي من حرمة تلك الأهداف شرعيته وموضوعيته. لكنه أيضا يعيد للسعودية حيويتها وفاعليتها في قيادة الأحداث والمواقف في وطنها العربي الإسلامي تدعمها في ذلك كارزمية ملكها الحالي الذي يحيلنا إلى أحداث السبعينيات ودور الملك فيصل. إن الحاجة إلى هذا الدور صارت ماسة وبدون بديل عنها، فقد شهدت منطقتنا تغييرات واسعة أسقطت أنظمة ودولا كانت تلعب دور التوازن العربي مع القوي الإقليمية، لكن اضمحلال هذه الدول، بل تحولها إلى دول فاشلة، وظهور أقطاب جديدة تملك مستويات عالية من النمو، ولها اعتزازها بماضيها المبالغ فيه  وإيديولوجيتها التي تستند إلى محددات تاريخية وفكرية ودينية مناهضة لنا، وتملك طموحا متزايدا للسيطرة على منطقتنا وتقسيمها (إسرائيل، تركيا، إيران) حمل معه تكليفا للسعودية ـبوصفها أغنى وأهم دولة عربية الآن، وبوصفها تحتضن المقدسات وتتحمل

مسؤولية الدفاع عنها ـ بتسلم زمام المبادرة لتسيير أوجاع الأمة والتصدي لمخططات العدو.

إن الدور الذي تقوم به السعودية حاليا، ليس فقط حشد التأييد لعملية تستهدف إبعاد تغوّل المد الشيعي داخل بلداننا ـ بشحنته الجديدة ويقظته  المرتكزة علي صعود إيران ونجاح ثورتها 1979 ـ في وقت ومنطقة محددتين، بل لا يمكن أن يكون خارج الشعور الذي يغمر كل عربي ومسلم بالهوان، ولا خارج السياق التاريخي لمسار التمايز الذي تعبره أمتنا. فغياب أي دور عربي خارج الوقوف إلى جنب هذا أو ذلك في الصراع البيني، أو أي فعل في الأحداث الدراماتيكية التي حولت عالمنا إلي مسرح لكل أنواع القتل والأعمال المطرودة من شرعية الأديان، بل والأعراف الإنسانية، جعل العربية السعودية تطوي صفحة من ديبلوماسيتها الهادئة التي اعتمدت دائما عن الحلول السلمية، لتفتح صفحة دولة قائدة مع ما يتطلب ذلك من قوة وحزم. ولهذا تم حشد التأييد لهذا الموقف الريادي وتكوين حلف من عشر دول، بفرادة وأهمية لافتتين تمثلتا في أن تدخل الحلف ليس  بقرار أممي ولا تفويض دولي، بل بتفويض وقرار من الله تمشيا مع  قوله تعالي "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ"، صدق الله العظيم. هذه الآية تجسد المرجعية الدينية لهذا الموقف، وإذا شاءت إيران المتدينة أن لا تختلف معه، فهو يتماثل مع الأوامر الواردة فيها. إلا أن جوهره يذهب لأبعد من التقييد بذلك حينما يريد رص الصفوف من أجل الانقلاب على السكون حيال دور إيران المتزايد في قلب المنطقة رأسا على عقب، والذي يترنح عبر التاريخ من سلبي إلى عدائي (إيران قبل الثورة صديقة لإسرائيل، وبعد الثورة رأس حربة لتدمير العرب بدءا بالحرب مع العراق، وبعد سنة 2003 صارت جزءا من معادلة التدمير والتفكيك التي تستهدفهم). وعكسا لردة فعل العرب المحتملة، فلم يحركوا المنطقة المحيطة بإيران، فهي تقبع في جغرافيا سياسية غير مواتية: حزام ناري من الأقليات الانفصالية (العربية والكردية والسنية) ومغروسة في محيط من غير الأصدقاء، وتملك تناقضات ذاتية عميقة، ووضعها السلبي قابل لإشعال الفتنة. فهل تحمل عاصفة الحزم تغييرا راديكاليا في الموقف تجاه إيران أو مقاربة جديدة للمواجهة معها؟.. وعلى كل تقدير فالمسؤولية التي انبرت لها السعودية، كما يمليها الواقع وأحداثه المتلاحقة، تتمثل في القضاء علي بؤر التوتر الأكثر خطورة وتأثيرا علي الوضع العميق للعالم الإسلامي والعربي وعقب ذلك لكل حادث حديث.

14. أبريل 2015 - 13:59

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا