متى أكون في نظرهم إنسانا؟
سؤال يدور في ذهن كل انسان مسلوب انسانيته مغلوب على أمره، سواء أعلن عنه ام اكبته في وجدانه ، سيبقى يطاردنا الى أن نضع حدا لمآسينا ونتخلص منهم ومن سياساتهم المدمرة ، حتى نسترد الغالي الى الحبيب (الوطن الى الشعب) .
الآن أخي القارئ لديك تصور عن من هم المعنيون ؟
نعم تصورك صحيح ،ومن غيرهم يطحن إنسانيتنا ؟ نعم هم الحكام العسكريون الذين تعاقبوا على رقاب هذ الشعب منذ أن أوهم نفسه بالاستقلال عن الاستعمار الغربي الغازي الذي أباح ارضنا وأعراضنا وأداس كرامتنا !، نعم هم من أوهموا هذ الشعب المسكين بأنهم خلاصه من الظلم والاضطهاد والكبت .
نعم انهم العسكر
كان "غاندي" محرر الهند العظيم يقول: { ان غايتنا أن نحرر الهند من الاستعمار البريطاني ، ونجنبها حكم القوات المسلحة لأن الأمة التي يحكمها الجيش لا تكون أمة حرة}
كلمات تناهت في الصدق والعظمة ، ولو أن الشعوب تعيها وتعمل بها لوفرت على نفسها الكثير من عناء الحياة ونزغ المغامرات ، وما تاريخنا السياسي و واقعنا الاقتصادي وحالنا الاجتماعي إلا شاهد على هذ العناء والمغامرة والجمود ، ونحن في صمت كأننا نؤمن ايمانا جازما أن معاناتنا ترجع تماما إلى ظروف لا تتغير! .
ما كنا نعاني منه في الامس مازلنا نعاني منه اليوم !، فلن أطيل عليك أخي القارئ بسرد مشكل : التعليم ، الصحة ، الفقر ، التنمية ، الفساد ، القضاء ....... الخ ـ فمداد البحر حبرا لقلمي لا يكفي ـ بل سأختصر على المشكل الأساسي الذي يعد بمثابة الحاضن لكل هذه المشاكل ألا وهو مشكل اختيار من يتولى أمرنا بإرادتنا.
في الأمس كان لدينا مشكل اختيار الحاكم بإرادتنا.
واليوم لدينا مشكل اختيار الحاكم بإرادتنا لم يتغير شيئ !!، فكل الحكام الذين تعاقبوا على هذ البلد وصلوا بطرق غير شرعية وبعيدة كل البعد عن إرادة الأمة .
فالرئيس المختار ولد داداه فرضته إرادة المستعمر. والحكام العسكريون الذين توالوا على الحكم من بعده جاءوا عن طريق انقلابات عسكرية وهم :
المصطفى ولد محمد السالك "عسكري" وصل سنة 1978م عن طريق انقلاب عسكري (إرادة العسكر)
محمد محمود ولد لولي "عسكري" وصل سنة 1979م عن طريق انقلاب عسكري (إرادة العسكر)
محمد خونه ولد هيداله "عسكري" وصل سنة 1980م عن طريق انقلاب عسكري (إرادة العسكر)
معاوية ولد سيداحمد ولد الطايع "عسكري" وصل سنة 1984م عن طريق انقلاب عسكري (إرادة العسكر)
اعل ولد محمد فال "عسكري" وصل سنة 2005م عن طريق انقلاب عسكري (إرادة العسكر)
سيد محمد ولد شيخ عبدالله "مدني" وصل سنة 2007م عن طريق انتخابات عسكرية (إرادة العسكر)
محمد ولد عبد العزيز "عسكري" وصل سنة 2008م عن طريق انقلاب عسكري (إرادة العسكر).
وما شهدناه من انتخابات في سنوات 1992م و 2007م و2009 ليس إلا إرادة العسكر لتشريع انقلاباتهم وذرا للرماد في عيون المجتمع الدولي الذي هو شغلهم وهمهم .
فأين إرادتك أيها الشعب ؟ فأنت ليس لك إلا الاستعباد والقهر والإذلال والإرغام على القبول ، بل أكثر من ذلك الرضى التام ، فأنت لا تملك من أمرك إلا عرقك المسفوح وعذابك المقيم .
فهذا باختصار واقع ارادتنا المسلوبة ، واقعنا السياسي البادي ، والذي لا يرى هذ الواقع يغالط ، والذي لا يعلن عنه يكذب ، والذي لا يتصوره يخدع نفسه ، والذي لا يقبله فعليه أن يطهر رجليه من الاغلال ويخفف كاهله من الأثقال ولنبدأ المسير .
المسير
بعد ستة وخمسون سنة من الاستغلال يتبين أن ما يسمونه استقلال ليس إلا مضاد قاتل للغرائز التي أقامها الله فينا وناط بها وجودنا وحياتنا ، والتي لا خلاص لنا إلا بها ، تلك الغرائز التي أصبح من واجبنا ومن أولوياتنا بل ومن الضروريات بالنسبة لنا العمل على احيائها وتركها تعمل بكامل حريتها .
في كتابه " مواطنون لا رعايا " أراد الكاتب والمفكر الإسلامي " خالد محمد خالد " أن يبين قيمة هذه الغرائز وأثرها في الحضارة الإنسانية ، فضرب مثلا بغريزة واحدة وهي غريزة الخوف حيث قال :
{ فلقد انشأنا المدارس خوفا من الجهل .
ووضعنا الدساتير خوفا من الاستبداد .
وأقمنا الحكومات خوفا من الفوضى .
وأنشأنا المستشفيات خوفا من المرض .
وتحلينا بالفضائل وجانبنا الرذائل خوفا من الله .}
فلك أخي القارئ أن تتصور ما أفضّت إليه بنا غريزة واحدة وهي غريزة الخوف ، فماذا لو اطلقنا وحررنا كل غرائزنا وخاصة الغرائز التي تتمثل مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كبتها .
والغريزة التي بكبتها تعاني امتنا اليوم ما تعانيه هي : غريزة النفور ، وخير ما قيل عنها ما سطره قلم المفكر "خالد محمد خالد " فلنقرأه معا :
غريزة النفور
{ وانا لنسأل : هل يمكن أن يساق الإنسان الى طعام كريه ؟
هل يمكن ان يُقبل مختارا على شراب مرير يتجرعه ولا يسيغه ؟ إننا ندعو الحاكمين أن يجربوا ذلك ، ولو مرة .
خذوا لقمة عفنة ، أو حشرة دسمة ، وضعوها في افواهكم و أمضغوها وتلمظوا بها ، و استحلبوها ، ثم انظروا ما سيحدث . سيحدث طبعا تقزز ونفور وغثيان .وإذا دلف اللعاب إلى الجوف بشيئ من هذه الطعمة الكريهة سترفضها الأمعاء في عنف فيحدث تجشؤ وقيء.
إن هذ الطعام المقذوف ـ يصور لنا قوة الغريزة بوجه عام ـ وغريزة النفور بوجه خاص .. ويدل في معناه العميق ـ على أن النفس البشرية ترفض بمثل الطريقة التي ترفض بها المعدة . كل نظام يرهق كاهلها ، وكل إرادة تكبل حريتها ، وكل مستوى معيشي يزري بآدميتها . وأن ضمير الشعب ينفر من كل جور ، وغدر، وتفاهة . ولكن شعبنا الأسيف محرم عليه أن ينفر ، ومحرم على غريزة النفور أن تؤدي وظيفتها.
مطلوب من الجماهير أن تبسط يدها الى اللغمة العفنة ، أو الحشرة الدسمة ، ثم تدسها في فمها ، وتستحلبها كما تفعل بأي شيئ حلو لذيذ . أي فارق بين هذا ، وبين اكراهها على نظم لا تريدها ، وأوضاع لا ترضاها وأشباح غريبة لا تعرفها ولا تألفها . أي فارق بينه وبين تجرعها المظالم المريرة المتمثلة في حكم الفرد . والاقطاع الفاحش والرجعية الراكضة .}
{ فدور هذه الغريزة في التطور الإنساني من أهم الأدوار واخطرها وبها يتأتى التجديد المستمر والإنشاء والابداع .
فنفور الإنسانية من الدابة، حفزها الى اختراع العربة، فالقطار ، فالطائرة .
ونفورها من حياة البادية والكوخ دفعها الى انشاء المدينة وتشييد القصور .
ونفورها من الظلم افضى بها الى العدل.
ونفورها من الاتوقراطية دفعها الى الديمقراطية.
ونفورها من الاستعمار قذفها نحو الحرية .
ونفورها من الاستغلال أدى الى الاشتراكية.
ونفورها من الانقراض حتم عليها المسايرة.
ونفورها من الحرب دفعها لنشدان السلام .
فلو أننا اطلقنا سراح هذه الغريزة ، وتركناها تؤدي الدور الذي وجدت لأدائه ، وعاوناها في نضالها . لكنا اليوم أمة أخرى . ان الحكم المطلق يعتمد في عمله لبقائه على اضعاف هذه الغريزة ليموت في الشعب كل إحساس بالمساوئ وتتبدد كل محاولة للنفور أو التغيير . فالشعب الذي تحول فيه طاقة هذه الغريزة عن وجهتها ـ يصير مأساة مفردة وكارثة متفوقة . لأنه يقع به الظلم ، فلا ينفر منه الى العدل . وتعضه الفاقة فلا ينفر منها الى الرغد .}
اخوتي الرافضين للاستبداد ، المشتاقين الى الحرية ، المتطلعين الى غد مشرق ، فلنبدأ ، وأول ما نبدأ به إحياء هذه الغريزة . فلننفر من واقعنا ، حينها أكيد سنصعد الطريق ـ طريق التغيير ـ ولكل مقام مقال .