لن يُكتب للبنوك الاسلامية البقاء طويلا ً إلا إذا استطاع القائمون عليها وضع آليات فعالة تـُمٓـكـِّن من تحصين الجوهر وتحسين الأداء فيومًا بعد يوم تؤكد المعطيات والوقائع المشاهدة -في الوسط المصرفي- الحاجة إلى التسلح بقدرٍ أكبر من الدراية
والكفاءة المهنية في إدارة المخاطر بما فيها المخاطر المتعلقة برأس المال المعنوي وما يقتضيه ذلك من عمل على الوقاية من اختلالات في الهوية أو تشوهات في الصورة الرمزية للمؤسسة.
في هذا المضمار تـُواجه البنوك الإسلامية العاملة مخاطر جمة على رأسها مخاطر الانحراف عن منظومة الضوابط القيمية الناظمة لهويَّتها وصبغتها الذاتية المتميزة والتي يمكن اختصارها في مرتكزات ثلاث:
المرتكز الأول يكمن في ضرورة التشبث بمبدأ الارتباط الوثيق بالاقتصاد الحقيقي ويتأتى ذلك عن طريق الابتعاد عن المعاملات التي تشوبها شائبة الغرر والابتعاد كذلك عن الفوائد الربوية وسائر المعاملات المشبوهة التي تحمل في طياتها إلزاما ً تعاقديا ً بدفع فائدة محددة سلفًا على أساس نقدي محض كوسيلة توليد للمال من المال دون وجه حق شرعي.
المرتكز الثاني: تطبيق مبدأ التشارك في مواجهة المخاطر وفق قاعــــــِـــــدَ تــــــَـــيْ الغنم بالغرم والخراج بالضمان.
المرتكز الثالث: احترام القيم السلوكية في المعاملات والتي في مجملها تناسب الفطرة السليمة لكونها نابعة من صميم الأخلاق الحميدة والتي منها على سبيل المثال لا الحصر قيم الصدق والوفاء والإفصاح والشفافية في صياغة العقود وفي تسعير الخدمات بالإضافة إلى التحلي بالسماحة البناءة ( la bienveillance constructive ) عند البيع وعند الشراء وحين القضاء...إلخ.
إن تطبيق تلك المرتكزات الثلاث في الواقع العملي عن طريق إدخالها في السلوكيات وفي الممارسة اليومية للبنوك الإسلامية يعتبر في حد ذاته غاية كبرى ومقصدا عظيما ً من مقاصد حفظ كينونة مؤسسات المالية الإسلامية وضمان شيء من التميز الاستراتيجي لها مقارنة بنظيرتها الكلاسيكية. والحق أنه لن ينجح أي بنك إسلامي إلا بقدر إخلاص إدارته في العمل على طرفي معادلة النجاح بشقيها: التحسيني والتحصيني.
١- الجانب التحسيني من المعادلة
إنّ جانب التحسين بطبيعته ذو صبغة إدارية و يقتضي العمل على توفير ظروف الإبتكار والإبداع داخل البنوك الإسلامية. وفي هذا الإطار يجدر بالبنوك الرائدة انتهاج مقاربة إرادوية (approche volontariste ) من تلقاء نفسها لضمان تموقع استراتيجي وبث شيء من الحركية الإيجابية في سوق العرض بدلاً من الخمول أوالجمود على منتجات محدودة كالمرابحة العكسية والمرابحة الصورية التي تكاد تنحصر في إعادة تسويق بطاقات الشحن الهاتفي ولا تزيد في الإقتصاد الحقيقي من قطمير. (كلمة قطمير تُستخدم عادة للتعبير عن قلة أهمية الشيء أو ضعف أثره وهنا أردت استخدامها للدلالة على ضعف أثر التمويلات الصورية في بنية الإقتصاد الحقيقي. ولَكم يتساءل المرء كيف يستمرئ البنك المركزي التغاضي عن تراخيص معطلة وأخرى ل "بنوك قطميريه " يقتصر نشاطها على » كرتاتْ كريْدي « بدلاً من بنوك منخرطة في الإقتصاد الحقيقي و تساهم في عجلة التنمية بمهنية واقتدار؟ لقد بات من الملح جدًا إرساء ثقافة مهنية داخل مؤسسات العمل المصرفي عامةً و البنوك الإسلامية خاصةً لجعلها قادرة على التجديد والتنويع لتلبية كافة رغبات التمويل والاستثمار بطريقة شرعية واضحة وشفافة. حينها سنتمكن من رفع نسبة التوغل المصرفي في بلادنا (le taux de bancarisation )
فــــتسعين بالمئة ( 90% )من الموريتانيين ليس لهم حساب مصرفي وفي هذا المجال يتعين على الحكومة عدم الاقتصار على توطين رواتب الموظفين لدى البنوك وإنما تشجيع الأبنكة بسن قوانين تفرض السداد بشيك أوعن طريق تحويل بنكي أو لكل معاملة نقدية تتجاوز قيمتها مليون أوقية سواء ً تعلق الأمر ببيع بضاعة أو خدمة أو عقار....إلخ.
خطوة كهذه من شأنها أن تدفع التجار والمشترين والموثقين الى اشتراط فتح حساب بنكي لكل التعاملات الناجزة بمافوق عتبة مليون مما سيكون له أثر إيجابي سريع على نسبة التغطية المصرفية وسيساعد في الحد من عبثية تداول المبالغ الكبيرة في دهاليز السوق السوداء والإقتصاد غير المصنف L’économie informelle
٢-الجانب التحصيني من المعادلة
هذا الجانب من المعادلة يكمن في الحاجة الى تكثيف مساعي التحصين الشرعي لجوهر البنوك الإسلامية. إذا كان الجانب التحسيني من المعادلة- المشار إليها أعلاه - يقتضي أساساً ضبط إدارة الموجود وتشجيع التوجه نحو الأفضل من حيث جودة الخدمات فإن هذه الأخيرة أقصد الجودة بمعناها الشامل لن تتأتى إلا بالحفاظ على جوهر العقود المعروضة أي فلسفتها الذاتية التي تشكل روح كينونتها وتميزها عن غيرها من عقود المصرفية الكلاسيكية ، يقتضي الأمر إذن قدراً كبيرا جداً من الصرامة في صياغة العقود والسهر على مراقبة التنفيذ ردعاً للإنحراف عن المسار الصحيح لهذه الصناعة المصرفية الواعدة.
٣- آليات وخطوات منتظرة لضمان النجاح في معادلة التحسين والتحصين للبنوك الإسلامية العاملة في بلادنا
من جهة يمكن القول إن الخطوة الأولى تكمن في ضرورة توعية الزبناء والمتعاملين مع البنوك الإسلامية ليدركوا جيداً أنها ليست مؤسسات خيرية وإنما مؤسسات مالية تبتغي الربح الحلال وبالتالي فكل تمويلاتها ليست مجانية وكل قرض تقدمه وكل ديون ناتجة عن تمويلاتها تبقى ديوناً كغيرها واجبة السداد في الوقت المحدد دون تأخير أو مماطلة. إن المدين المتحايل أو المماطل يضع نفسه في حالة تعدي وظلم مما يعرضه للْـمُساءلة القضائية وربما الحبس أو التعزير عند الإقتضاء من منطلق أن ليّ الواجد يُحـِلّ عرضه وعقوبته[1].
وفي نفس الوقت من حق مستهلكي الخدمات المالية الإسلامية الإهتمام بمدى صحة العقود التي يـَقْدمون على توقيعها بل إنه من واجبهم الأخلاقي التثبت أكثر من السلامة الشرعية للعقود من خلال الاستفسار والإستعلام وحتى الضعط على البنوك لكي تقوم بتفعيل عمل الموجود من الهيئات الشرعية التي يُفترض بها أن تقوم دورياً بعمليات تحليل وفحص لعينات من العقود الجاري بها العمل وأن تُصدر بشكل منتظم تقارير عن سير عمليات الرقابة السابقة لصياغة العقود والرقابة المواكبة للتنفيذ والرقابة اللاحقة بهدف التحقق التام من عدم الانحراف عن المسار الصحيح.
ومن جهة أخرى يمكن القول إن الخطوة الأهم على الصعيد المؤسسي تكمن في ضرورة إصدار قانون مؤطر للبنوك الإسلامية العاملة في بلادنا وتخصيص جزء منه لضبط عمل الرقابة الشرعية (بنوعيْها الداخلي والخارجي ) لضمان استقلاليتها وتجنيبها الوقوع في مزالق تضارب المصالح واضطراب الصلاحيات.
إنه حقيقةً لا يمكن تحصين صناعة المالية الإسلامية من دون قوانين مؤطرة لطبيعتها ووسائل عملها. ولقد أدركت ْ كافة الدول المهتمة بهذه الصناعة أهمية التشريع المؤطر لها فمثلاً لبنان والبحرين والإمارات والكويت والمغرب ودول أخرى عديدة أصدرتْ قوانين خاصة بالبنوك الإسلامية. وفي هذا المجال ربما يمكننا الاقتباس من آخر تلك القوانين صدورًا في سبيل تأطير نطاق عمل البنوك الإسلامية العاملة في بلادنا .يتعلق الأمر بقانون البنوك الصادر مؤخراً في جارتنا الشمالية وتمت فيه إعادة تسمية البنوك الإسلامية حيث ظهرت ْ تحت بند البنوك التشاركية. فقد عرّفت البنوك الإسلامية أو ما أطلق عليه البنوك التشاركية[2] بأنها شخصيات معنوية مؤهلة لمزاولة أنشطة مؤسسات الائتمان [3]بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة بالإضافة إلى مزاولة العمليات التجارية والمالية والاستثمارية، باستثناء كل عملية تعامل بالفائدة أخذا وعطاء. هذا و لم يهمل القانون المذكور دور الرقابة على البنوك الإسلامية فقد نصّ بشكل واضح على الإلتزام بما سماه المطابقة ( la conformité )من خلال إحداث لجنة الشريعة المالية استنادا لأحكام المادة 7 و8 من الظهير المتعلق بإعادة تنظيم المجالس العلمية. هذه اللجنة يتولى بنك المغرب أعمال سكرتاريتها، وتعتبر آراؤها مقدمة على أي تفسير مناف للمقتضيات المتعلقة بالمنتوجات والخدمات المطابقة للشريعة، و بها قابلة للاحتجاج سواءً بالنسبة للبنوك التشاركية أو بالنسبة لكل مؤسسة مالية تقدم منتوجات وخدمات مطابقة للشريعة داخل المغرب وفقاً لـمـقتضيات القانون رقم 103.12 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها والصادر بتاريخ فاتح ربيع الآخر 1436 الموافق ل22 يناير من العام الجاري 2015.
أمّا في بلادنا فما زال المراقبون -إلى حدّ الساعة - ينتظرون بفارغ الصبر تحرك السلطات المختصة نحو تأطير عمل البنوك الإسلامية قبل أن يدفع المواطنون والمودعون البسطاء ثمن المغامرات المحتملة لمصرفيين قد لا نشك في صدق نواياهم بل ربما نثق في الكثير منهم لكن الثقة لا تعني عدم الأخذ بالحيطة والحذر وما يقتضيه ذلك من وعي بأهمية الرقابة...
( la confiance n ’exclut pas le contrôle )
وما تداعيات إفلاس بنك موريس "الإسلامي " عن الذاكرة ببعيد.!
إن تأكيدنا على الحاجة الماسة لتحصين جوهر البنوك الإسلامية من خلال تفعيل آليات الرقابة على المطابقة الشرعية la conformité) ) إنما يعود إلى مشاهداتنا ومتابعتنا اليومية لواقع هذه البنوك وما يتخلل عملها من انحرافات مشينة أحياناً مقارنة بما ينبغي أن يكون عليه الحال من التزام بالمعايير والنظم المهنية الضابطة للعقود الشرعية المتعارف عليها لدى المختصين عبر العالم.
بناء ً على ما سبق وفي انتطار تحرك السلطات الإشرافية والتشريعية يبقى التساؤل مشروعا عن السيناريوهات الممكنة لتفعيل الرقابة الشرعية على البنوك الإسلامية العاملة في بلادنا ؟
ومن خلال التجارب المشاهدة عبر العالَم يمكن اختصار أنماط التطبيق العملي للرقابة الشرعية في ثلاث أنماط أساسية تتبعها خيارات فرعية تتعلق بالهيكلة الإدارية الخاصة بكل بنك.
1- نمط "يــُسمى" نمط الحد الأدنى من الرقابة الشرعية و يكمن في اعتماد البنك على مستشار شرعي داخلي ( أو / و َ )هيئة شرعية مصغرة تضم اثنين أو ثلاثة على الأكثر من الفقهاء المحليين أو "المشايخ المشهورين". هذا النمط هو السائد في بلادنا لحد الأن ولكن للأسف بصورة غير مــــُــــــقــــــنـــــّــنة لدرجة أن البنوك الإسلامية وحتى غير الإسلامية كثيرا ما تقوم بالتعامل "في الظلام en noir "مع الفقهاء دون آلية تعاقد واضحة للحصول على فتاوى تثبت نظريًا حلّية معاملاتها و في بلادنا بنوك تكتفي فقط باستشارة "فقهائها" حين الحاجة وبالتالي لا تجدهم يقومون بأية أعمال تدقيقية بالمعنى المهني للكلمة. بل لا يكاد يكون لهم وجود أصلا في الواقع العملي اللهم إلا الحضور الرمزي عند التأسيس أو حين الحاجة لعملية ماركتينچ أو ما يُعرف بحملات التسويق الدعائي.
2- النمط الثاني هو انشاء هيئة شرعية عليا قائمة بذاتها و تعمل على مستوى البنك المركزي لضمان التزام البنوك الإسلامية بكافة مقتضيات المطابقة الشرعية. وهذا النمط هو الذي تبنــّــتْـه دولة ماليزيا واختار القانون المغربي الاقتباس منه مع قدر كبير من التعديل والتنزيل في السياق المحلي.
3- النمط الثالث من أنماط الرقابة الشرعية هو إسناد مهمة المطابقة الشرعية لبيوت خبرة مستقلة تعمل على تحليل المعلومات والعقود وتتواصل مع البنك من خلال جهاز تدقيق داخلي. يمتاز هذا النمط الأخير بقوة مصداقيته وقربه من نموذج عمل مراجعي الحسابات المالية مما يعطيه صبغة مهنية أكبر ولعل هذا ما يفسر انتشاره لدى البنوك الإسلامية العاملة في الغرب.
إن تأطير وتفعيل آليات استصدار شهادة مطابقة شرعية لعقود البنك من قبل هيئة مستقلة من شأنه أنْ يقلل من شبهة تضارب المصالح و يسهم في بناء مصداقية قابلة للديمومة في ظل الحفاظ على الجوهر والتقدم دائماً نحو مستوى أفضل من المهنية.
وفي ختام هذا المقال يجدر التذكير بالحاجة الملحة -أكثر من أي وقت مضى- إلى ضرورة استشعارالأجهزة الإشرافية والرقابية لـــمـــســـــــــــؤوليــــــّــــــاتــــها في تصحيح مسار البنوك الإسلامية والعمل على تحصين هويتها وتحسين صورتها لدى الزبناء وكافة الأطراف المهتمة بمستقبلها كرافدٍ محوري من روافد الإقتصاد الحقيقي خـــدمــــــــةً للأرض والإنســــــــــــانْ.
[1]
( لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ ) نص حديث شريف رواه الإمام النسائي وورد أيضا في صحيح الإمام أبي داود.
ونفس المعنى يعضدهُ الحديث الوارد في صحيح الإمام البخاري والإمام مسلم وهذا متنه: ( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ)
[2]
لاشك في أن هذه التسمية الجديدة تبدو موفقة إلى حدٍ مّا بالنظر إلى جوهر فلسفة البنك الإسلامي والتي كما ذكرنا أعلاه من ضمن مرتكزاتها الجوهرية مبدأ التشارك في الأرباح والخسائر خصوصا فيما يتعلق بالمعاملات المبنية على عقود القِراض والمشاركة.
[3]
أنشطة الائتمان لدى البنوك الإسلامية تتمثل أساساً في تلقي الأموال من الجمهور على شكل حسابات جارية أو ودائع استثمارية أو ادخارية وكذلك إتاحة التمويل ووضع جميع وسائل الأداء رهن تصرف العملاء والقيام بأدائها بما لا يتعارض مع القانون و التكييف الشرعي السليم.
بقلم بشير ولد الساس شيخنا محمدي
أستاذ بكلية القانون في جامعة ستراسبورج /فرنسا