بدأت مسيرة التحرر من براثين العبودية وظلم الإنسان لأخيه الإنسان منذ جاء الإسلام بالعدل وقيم المساواة نصرةً للمستضعفين بل بدأت قبل ذلك حين أرسل الله موسى عليه السلام وكانت أول مهمة له تحرير بني إسرائيل من استعباد الفراعنة لهم قال تعالى: [ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض
ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونريَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون] سورة القصص.
لم يقف الإسلام عند تحرير العبيد وحصر أسباب الاستعباد في واحد هو الجهاد بل رفعهم إلى صحابةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبقاهم على هوياتهم فظل بلال حبشيا وصهيب روميا وسلمان فارسيا وزوجهم من الأشراف حتى ذكر القرآن أحدهم باسمه وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم توفي وقد عقد اللواء لأسامة بن زيد المذكور في القرآن وكان أبناؤهم من كبار العلماء.
لكن ممارسات بعض المسلمين فيما بعد ذلك، انحرفت عن نهج سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين . ومن ذلك ما حصل من استرقاق في موريتانيا على أساس اللون من دون جهاد يذكر فكانت النتيجة وجود مئات الآلاف من السود المستعبدين داخل فئة العرب ـ البربر.
ظلم ذوي القربى:
وحين بدأ الوعي يدبّ في عقول هؤلاء اكتشفوا بكل مرارة أن إخوتهم في الدين سلبوهم حريتهم وسخروهم لخدمتهم وتم بناء المجتمع على ظلمهم وهضم حقوقهم في التملك والتعليم والتزوج...إلخ وكل ذلك باسم الدين
وللأسف لم تعرف حركة الحراطين النضالية في مرحلة تأسيسها تنظيما سريا ولم يكن بمقدور المناضلين الأوائل التنظير لمشروع مجتمعي متكامل , فكان لكل تيار سياسي نصيبه من القطيع لكنهم بنوا على ملاحظات بادية للعيان من واقع المجتمع الذي يعيشون فيه. لقد كانت صرخة مظلوم تنذر بخطر محدق بالجميع. وبدأ المثقفون والساسة في عملية تشخيص لا تكاد تنتهي.و لم يتمكنوا حتى الآن من وصف الدواء المناسب .فما يزال كلّ يرى قضية الحراطين العادلة من زاوية: فمنهم من ينكر وجود العبودية جملة وتفصيلا ويتخذ مؤامرات اليهود شماعة، ومنهم من يرى أنها مخلفات على وزن ومعنى تراكمات تراكمات، ومنهم من يراها واقعا لا يزال مُعاشا... لتظل القضية في تدافع بين أقدام اللاعبين... فكل الإجراءات المتخذة حتى الآن لم تتجاوز حد التهدئة وليس بإمكانها استئصال الداء والقضاء كليا على إقصاء وتهميش شريحة تمثل قرابة نصف المجتمع
حقيقة الداء:
و ما دامت القضية في مرحلة التشخيص الذي لم يكتمل فيما يبدو أو تنقصه الدقة على الأقل ، فالبيظان والحراطين يعانون من نفس المرض ، كمثل زوجين مصابين بمرض من أمراض المعاشرة وكل منهما يدفعه الشعور بالذنب إلى رفض الدواء ومحاولة إلصاق تهمة المرض بشريكه ، في حين يظل الطبيب الحاكم لحاجة في نفسه مهادِنا لا يريد مصارحة المرضى. ولا هم مستعدون لتجرّع أدوية يرون أنهم في غنى عنها. أو كحال مصلح أو داعية يريد تغيير المنكر ويريد رضي الناس أيضا عنه والثناء عليه. فإلى أين نحن نسير يا ترى ؟؟؟ وعلى أية حال فالأمر مخيف ومن خاف أدلج ومن أدلج وصل المنزل ومن سار على الدرب وصل فسيروا على يركة الله وهدي رسوله عليه الصلاة والسلام .
الحراطين في معادلة الوحدة الوطنية:
إن أي حديث عن الوحدة الوطنية لا يأخذ في الحسبان أن الحراطين فئة مستقلة تمثل كما تمثل موريتانيا همزة وصل بين الزنوج والعرب، وبرزخا اجتماعيا يلتقي فيه الطرفان وليست فريسة سياسية تتصارع كل من الفئتين على ضمّها من أجل تشكيل أغلبية ديموغرافية تضفي الشرعية على نظام الحكم الذي يتشبث به البعض ويريد البعض الوصول إليه ... والواقع أن الحراطين يمثلون فئة وسطا بين الفئتين : فهم ينتمون بأصولهم إلى فئة الزنوج وبحضارتهم إلى العرب ولهم خصوصياتهم التي تميّزهم . فمتى يدرك مثقفو الحراطين ان هذه الحقيقة يمكن توظيفها كأداة لإصلاح ذات البين واستغلالها كمصدر ثراء يمكنهم من الوقوف كشوكة الميزان على قدمين وعلى نفس المسافة من الخصوم من الفئتين ذواتي الشحنتين الكهربيتين مختلفتي الإشارة و بذلك يتسنّى لهم لعب دور الإصلاح المنوط بهم, بعيدا عن تغذية صراع المصالح الدائر بين فئتي البيظان والزنوج, منذ تأسيس الدولة في غياب الحراطين.
ضوابط حول الحلول:
إن أي حل لا يتضمّن القضاء على ثلاثيّ: الفقر والجهل والمرض في البلاد عموما ولدى الحراطين خصوصا هو ذرّ للرماد في عيون هؤلاء الذين يرزحون تحت نير العبودية منذ أربعة قرون وإن أي حل لا يعيد صياغة العلاقة من جديد بين أبناء الأسياد السابقين وأبناء العبيد هو من باب التهدئة لا أكثر ولا أقل وبعبارة أخرى يجب إعادة النظر في العلاقة بين القبائل والحراطين التابعين لها ليتمكنوا من الولوج الي الثروات والامتيازات والخدمات وإن المصير المشترك يحتم على الجميع تأسيس عقد جديد للمساكنة على أساس الشراكة. هي إذا ضرورة إعادة تأسيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية من جديد على أسس من العدل و الأخوة الإسلامية الحقيقة واحترام حقوق الإنسان والتي منها حق الاختلاف.
إن سنّ ترسانة من القوانين التي تجرّم ممارسة استعباد الناس وإنشاء وكالة لمكافحة أثار الاسترقاق بل ومحكمة لمعاقبة الاستعباديّين كل ذلك جاء ثمرة لنضال ُيذكر لأصحابه فيُشكر ولكنّه قليل مما يجب فعله لوضع قطار النضال على سكة التاريخ... وتبقى التطبيقات رهينة إرادة النظام السياسي المختطف من طرف ضباط لا يهتمون بالتعليم ولا بالعدالة ولا بالتنمية ولا بالصحة فلا القوانين ولا الزمن كما يزعمون كفيلة بإحداث إصلاحات في مجتمع مؤسس على الظلم في الأصل , جاهل ومريض وتعيش قرابة نصفه تحت خط الفقر. مجتمع قبلي تتجذ ر فيه الطبقية على أساس العمل(مثل حال لمعلمين ) والاسترقاق على أساس اللون في أغلب الأحيان كحالة الحراطين ,وإن كان بطبيعته مجتمعا مسلما يتقبل كل ما هو ثابت من شرع الله بمعنى أنه لا يزال سليم الفطرة.
الحل في الرجوع إلى الحق:
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ [كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعرف وتنهون عن المنكر و تؤمنون بالله] الآية 110، سورة آل عمران.
إن رجوع الجميع إلى الإسلام الصحيح هو السبيل إلى استرجاع الحقوق و إزالة الضرر وتأمين سفينة المجتمع من الغرق. كما في الحديث: «مثَل القائم في حدود الله والواقِع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذِ مَن فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» رواه البخاري عن النعمان بن بشير.
إن الصحوة الحالية وإن كانت ترافقها صفعات موجعة وابتلاءات عظيمة للأمة الإسلامية عموما، قد تشكل بداية الحل المنشود الذي يرضى به الجميع.
عامل الوحدة في خطر:
أما عامل الوحدة الأقوى بين فئات المجتمع الثلاثة (البيظان ـ الحراطين ـ الزنوج) فهو الدين الإسلامي الذي بدأ يتأثر هو الآخر بالصراع وذلك بسبب استخدامه كسلاح من طرف من نصّبوا أنفسهم حماة للدين في وجه البقية قديما: من أجل السيطرة عليهم، وحديثا بهدف الإبقاء على الوضعية الراهنة لأنها في صالحهم على الأقل في الوقت الراهن ...مما جعل البعض يتوهّم أنه مصدر شقاء ما دام يسلّط عليه سوط العبودية الجائر فيحاول نقل المعركة من ميدان السياسة وحقوق الإنسان إلى ميدان الدين والله المستعان , لكن الله أراد تجديد هذا الدين ونشره بالدعوة.
و إن الصحوة الإسلامية كفيلة بالقيام بالإصلاحات اللازمة في الجزء المتغير من الدين كالفقه لملائمته مع أحوال المسلمين المتغيرة مثلاً وجديرة "أي الدعوة" بصقل وتنظيف الجزء الخالد من الرسالة (العقيدة) من الخرافات والبِدع والفهم السقيم
كل عام ونحن نسير...:
أما مسيرة المطالبة بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ستنطلق اليوم الأربعاء 29.ابريل 2015 فهي خطوة في الاتجاه الصحيح إن كان الهدف منها هو الخروج من طور التشخيص إلى مرحلة توصيف الحلول. لضرورة دفع عجلة النضال نحو تحقيق تقدم ملموس.
وقد يشارك فيها الجميع بقناعة ـوذلك أملنا ـ لكن الشيطان يكمن في تفاصيل الإجابة عن أسئلة تفرض نفسها ولا بد من الإجابة عنها لنمضي قدُما الى الأمام و في الاتجاه الصحيح منها: هل الحقوق تُمنح أو تُنتزع؟ وكيف يتم ذلك؟ وما دور السلمية واللاعنف في استمرارية وجدوائية النضال؟ وكيف نقنع أحفاد الأسياد بحمل راية الدفاع عن أبناء العبيد السابقين في بادرة لطيّ صفحة الماضي وبناء الثقة والنصح بين الإخوة المسلمين....؟