قضية الحراطين.. المصالحة و المصارحة / أماني ولد محمد سيدي

ترددت قليلا في كتابة هذه الأسطر لِما قد يفهمه البعض أنها لغة فئوية ، تلكم اللغة التي أمقتها و أمقت أصحابها أيا كانت الشريحة التي ينتمون إليها على اعتبار أن موريتانيا للجميع و بالجميع بغض النظر عن الفئات و المكونات الاجتماعية لشعبنا العزيز،

 غير أن الحديث اليوم عن قضية الحراطين هو حديث عن قضية تعني كل موريتاني و لم يعد حديثا فئويا يعني شريحة دون غيرها، بل هو حديث عن مصير بلاد بأكملها. و قد اقتبست هذا العنوان من مبادرة "المصالحة والمصارحة" الشبابية التي أحييها في بداية هذه الأسطر على الجهود المتميزة التي تقوم بها.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن الحراطين قد تعرضوا لمدة قرون لأنواع من الأذى و التهميش و الإقصاء و الغبن و مورِست عليهم عبودية أقل ما يمكن أن توصف به أنها فظيعة إلى حد لا يليق بالحيوان أحرى بالإنسان، مع العلم أن المعاملة كانت تتفاوت من قوم إلى قوم، و مهما حاول البعض أن يُنكر هذه الممارسات فلن يستطيع لأن الجميع شاهد على ما قام به الأجداد و ورثه الآباء، و قد ظهرت مخلفات هذه الممارسة بشكل جلي على أجيال هذه الشريحة حيثما كانوا، فنجدهم في المدن و القرى و آدوابه فريسة للجهل و الفقر و المرض.
إن القضاء على هذا الغبن الذي مورس على شريحة الحراطين ينبغي أن يكون أولوية إستراتيجية اجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا لِمَا يشكله استمرار هذا الإقصاء من مخاطر تتهدد البلد على كافة المستويات ذلك أنه بلغ حدا لم يعد بإمكانه  الاستمرار و ما كان له أن يكون أصلا حتى يستمر. و رغم أن الأنظمة المتعاقبة حاولت القضاء على هذا الغبن إلا أنها لم تفلح حتى و إن كانت قد حققت بعض النتائج الملموسة على أرض الواقع غير أن غياب سياسة إنصاف حقيقية و صادقة قد مثَّل حجر عثرة في طريق كل عملية قيمَ بها، ذلك أن العمليات الترقيعية و الحلول المؤقتة لا تنفع للقضاء على إقصاء بهذا الحجم و مخلفاته المُعاشة على كافة الأصعدة.
إن إنصاف الحراطين يبدأ بمصارحة حقيقية بين كافة أبناء الوطن ، يقر فيها الجميع بما له و ما عليه ، تلكم المصارحة الصادقة هي أول لبنة في بناء مصالحة قوية نحتاجها بشكل كبير في سبيل نهضة و بناء هذا الوطن الغالي الذي يحتاج إلى تكاتف أبنائه –كل أبنائه- ليتمكن من النهوض و يقوم بدوره الريادي كهمزة وصل مؤثرة بين إفريقيا و العالم العربي. ولا شك أن المنطقة اليوم تفتقد إلى دور فعال يمكن لبلادنا أن تقوم به بكل جدارة على مستويات عديدة و أهمها التنمية و الاستقرار ومحاربة الجريمة المنظمة والتوسط لحل مشاكل إقليمية أرهقت المنطقة لعدة عقود.
هذه المصارحة ينبغي أن يكون روادها أهل العلم والرأي والحكمة و هم كثر في هذا البلد من كل المكونات الاجتماعية ذلك أن تأثيرهم في المجتمع - وخصوصا في مهمة كهذه - يفوق تأثير الدولة بكافة مؤسساتها نتيجة الهوة بينها وبين الشعب الذي يتعلق برموزه أكثر من غيرهم.
و من أهم نقاط هذه المصارحة أن يعترف الجميع بالإقصاء الذي وقع لشريحة الحراطين و السعي لمحاربته كلٌّ على مستواه و بوسائله المتوفرة. النقطة الثانية هي عدم إلقاء اللوم على الأجيال الحالية بسبب أفعال مارستها أجيال مضت إلى ربها، و هذه نقطة محورية لتحقيق المصالحة، فمن يريد رفع الظلم عن الحراطين لا يحق له أن يظلم  شريحة أخرى ، بل عليه السعي لمصالح الجميع و تحقيق العدالة و المساواة بينهم ، هذا إن كنا نريد بالفعل إقامة دولة المؤسسات و المواطنة بعيدا عن الدولة الفئوية.
كما علينا أن نوقن أن العنصرية لم و لن تكون حلا لأي مشكل من المشاكل وبالأخص إن تعلق الأمر بقضية مرتبطة بالوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية. و حين يظهر عنصري في فئة معينة ليس لنا أن نتفاجأ بظهور عنصريين في الفئات الأخرى، و هو ما على العقلاء الوقوف ضده ، حيث ينبغي مساندة النشطاء و العاملين المعتدلين في كل فئة وتشجيعهم و الوقوف معهم بدل الانشغال بالمناكفات والمواجهات مع العنصريين حرصا من أي يؤدي ذلك إلى إعطائهم زخما أكثر مما يستحقون.
و أما المصالحة فليست شعارات ترفع و حملات مؤقتة تُقام بين الفينة و الأخرى من أجل إسكات صوت الحق أو امتصاص ردة فعل على واقع مزري. المصالحة هي جهد وطني متكامل، يشارك فيه الجميع بكل القدرات والمقدرات من أجل خلق نواة صلبة للوحدة الوطنية. المصالحة تعني كل واحد منا في بيته و محل عمله و مكان دراسته و في الشارع ومع الأهل و الأصدقاء والجيران، المصالحة تتجسد أولا في المعاملة باحترام و أخوة ومساواة قبل أن تصل إلى طور الأداء والبناء على أرض الواقع.
ومن أهم النتائج المنتظرة من المصالحة هي مساواة الجميع في الحقوق و الواجبات دون اعتبار لفئة و لا تحيز لجهة أو قبيلة، حيث يستطيع الجميع أن يحظى بحقه في دولة ينتسب إليها، حقه في التعليم السليم، حقه في عدالة تحكم بالحق ، حقه في الأمن على نفسه و ماله و أهله، حقه في الرعاية الصحية الجيدة و بأقل التكاليف، حقه في الحصول على المكانة التي استحق بفضل جهوده، حقه في اختيار من و ما يريد دون وصاية من أحد، وباختصار له الحق في أن يحصل على كل ما يجب أن توفره الدولة لمواطنيها بطريقة سليمة بعيدا عن التمييز العرقي و الجهوي. و في مقابل هذه الحقوق تأتي الواجبات ، الوجه الآخر للمواطنة، حيث على المواطن أداء واجباته اتجاه الوطن و الشعب و القانون بكل وطنية و إخلاص و تجرد، و لكن علينا أن لا ننتظر من مواطن أداء واجباته اتجاه دولة تضن عليه بأبسط حقوقه !
إن قضية الحراطين كفئة من فئات المجتمع الموريتاني تحتاج إلى لفتة صادقة من كل فرد و من كل مؤسسة خصوصية كانت أو عمومية، حتى نرفع الظلم عنهم و الإقصاء الممنهج الذي تعرضوا له و لا زالت مخلفاته تنهش كل بيت و كل فرد فيهم.
إن سياسة دفن الرأس في الرمال ليست هي الحل، حتى وإن كان أتباعها كثر، ذلك أننا اليوم أحوج ما نكون إلى أن نواجه مشاكلنا بكل شجاعة و نوجد لها حلولا جذرية تقضي عليها حتى نتمكن من العبور ببلادنا وشعبنا ومستقبلنا إلى بر الأمان بعيدا عن الأخطار الفئوية التي لا قدر الله إن سلكت طريقا غير طريق التسوية ستكون العاقبة وخيمة على كل الفئات، و حينها لا يحق لنا أن نحلم بدولة لأن الفرصة ضاعت من بين أيدينا بأيدينا.
إن الفرصة اليوم، وقبل أي وقت مضى، مواتية للمصارحة والمصالحة، و الحاجة لها ماسة حتى ينعم الجميع بالعدالة و نشارك سويا في بناء وطن لا يمكن لجهة و لا فئة أن تزايد على غيرها في حبه والتعلق به والسعي في مصلحة أبنائه، والعاقل من اتعظ بغيره و فوَّتَ الفرصة على العنصريين والمتطرفين من كل الشرائح قبل يشعلوا فتنة ستأتي لا قدر الله على الأخضر واليابس، و لنا في دول عديدة عبرة وموعظة. اللهم أحفظ بلادنا وبلاد المسلمين، و وحد كلمتنا و رص صفوفنا وأبعد عنا كل فتنة وتفرقة.

1. مايو 2015 - 1:52

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا