...ما انسدت فجاج الأرض يوما في وجه مظلوم إلا وتفتحت له أبواب السماء، وما أرهقت أغلال المخلوقات جسدَ مضطهد إلا أرهفت روحَه فيوضُ الرحموت الإلهية.
شعب الحراطين أمة نَسَجَها التمزيق! وجَمَعَها التفريق! وجُهِّلت باسم الدين! لكنها أبدعت بروح الدين!
حين كانت صنوف القهر تنحط على هذه الأمة في كينونتها لتغرزها في وحل السفلية، كانت روحها تناور وتتطلع من ثقوب القفص الجماعي الذي وضعت فيه وهل تتطلع الروح إلا إلى موطنها الأول؟ حيث الملكوت المطلقة والرحمات الكلية التي تتغشى –من عليائها- نفوس المستضعفين فتغدق عليهم تجليات الطمأنينة وترفعهم لمقامات الأمان.
وما "المدح" و أهازيج المحبة النبوية التي فطَرها هذا الشعب إلا حالة تجل صوفية شاعرية أبدعتها مظلومية هذا الشعب في رحلتها العلوية بحثا عن العدل الذي سدت في وجهه فجاج الأرض وحكم الأرض و"دين" الأرض، فانبثقت له من علياء السماء تنزلات النصر والمدد: مواجيد تبلسم الشجن و تزرع الأمل.
لقد كانت المحبة النبوية الفيض الذي انبثق على نفوس هؤلاء المضطهدين فغمر القلوب سكينة تحت الأجساد المعذبة، وكان يكفي "العبد" أو –الأمة- الذي (يظل يرعى ويبيت يطحن) أن يسرق لحظة هيام من خارج جدول الزمن الاستعبادي يصدح فيها: "وَنِّي بْوِلْ عبد المطلب" أو "الا يالنبي ما زين اسمو" ! فتنزاح بعيدا تلك الهموم اللاتي "لا يجدن مصادرا" إلا في حب الله وحب رسوله عليه سحائب التسليم.
و تفنن هذا الأدب المديحي في التعبير عن التعلق الوجداني بالذات النبوية والجمال المحمدي فتتبع الخصال والمزايا "راجل ول عبد المطلب" وهام بالحسن وكمال الخلقة "سنيه وعينيه وخشمو" وعدد المعجزات والبركات "ومنين احبى بل اتحابيه...شبعت لغنم واشبع لبكر" وكان ذورة هذا العشق الرباني هي التطلع للقاء المحبوب "شفيعي تلكيني واياه"
وكما كان هذا الفن مواجيد محبة صوفية كان كذلك منبع علم وتهذيب، فهذه الأمة التي فرض عليها الجهل وأغلقت عنها منافذ التزكي الأخلاقي وجدت في فن المدح موردا زلالا لإرواء غلتها المعرفية والخلقية، ومن أين اكتسب شيوخ الحراطين تلك الحكمة التي تعرف عنهم إلا من هذا الفن؟ وكيف اكتسب الحراطين تلك الرزانة والصبر على الظلم وتجلياتها حاضرا في سلمية نضالاتهم إن لم تكن جاءتهم من فيوض تربية الملحمة السِّيرية التي أبدعتها ذائقتهم الجماعية.
ولئن حرم أسلاف الحراطين من "دندنة" الوسائل الدينية فلقد أبدعوا في تلخيص وتوحيد الغاية الدينية، كما ذلك الأعرابي الذي لم يكن يزيد في صلاته على أن يتشهد ويسأل الله الجنة ويعوذ به من النار..وحول ذلك كان الحراطين يدندنون:
آن يوم المحشر لا جيت...لا نجبر يكون النعمة
وفقبري يكان أدربيت...الله تكشح ذيك الظلمة
رحم الله أسلاف الحراطين وغفر لمن ظلمهم ولا وجد الكل يوم المحشر إلا المغفرة والرضوان.