لقد خلق الله الخلق بقدرته على هذا الكوكب،وجعلهم مختلفين في العقول والمدارك والألسنة والألوان والأفكار ... الشيء الذي نتج عنه تعدد في الأفهام والآراء والأحكام ،وهذا الاختلاف آية من آيات الله الكونية وسنة من سننه ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك
ولذلك خلقهم ) .
بيد أن الاختلاف وإن كان سنة من السنن الكونية،فإن الحوار المؤدي إلى تحقيق التفاهم بين بني البشر لتحقيق مصالحهم في معاشهم ومعادهم يعد أيضا من الفروض الشرعية الكفائية التي تعتبر مسؤولية من مسؤوليات الأمة ،يأثم الجميع بتركها ،شأنها في ذلك كشأن سائر الفروض الكفائية التي يأثم جميع الناس بتركها ،مع سقوط طلبها والإثم عند قيام البعض بها ،كما قال الشيخ سيدي عبد الله في مراقي السعود :
وهو على الجميع عند الأكثر++ لإثمهم بالترك والتعذر.
وفعل من به يقوم مسقط ++ ........................
إن الحوار كان ولا يزال سبيل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في الدعوة إلى الله تعالى ،فقد عرض في كتاب الله تعالى وصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة من حوار الأنبياء مع أقوامهم ،في حوارات استغرقت جميع مناحي الحياة ،وعرضت لكل الحالات ،وطرحت كل الموضوعات ،وناقشت كل القضايا ،فإذا كان الحال كذلك مع أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يمتلكون الحقيقة المطلقة المؤيدة بالوحي ،المسددة به ،فإن على من بعدهم أن يعلموا أن الحوار والتفاهم من الضرورات التي يتحتم تحقيقها للتعايش السلمي على ظهر هذه البسيطة .
إن على جميع فرقائنا السياسيين بجميع أطيافهم أن يتقوا الله في أنفسهم وفي
من خلفهم وفي الوطن أجمع ،بالاستجابة والإجابة والتوجه إلى حوار شامل يذلل كل العقبات والعراقيل في وجه تنمية البلاد وصيانة مقدراتها ومكتسباتها ،حوار عام غدق طبق مجلل عن طريق المناظرة والمثاقفة الهادئة المتحلية بروح المسؤولية مع التركيز على اكتشاف الأسس المشتركة التي لا شك أن كل مصلح يشرفه أن يكون سادنها وحاجبها وحامي حماها ،وما من أدنى شك أن أساسها وتاجها الثوابت الوطنية التي يجمع كل عقلائنا على رعايتها وصيانتها والحفاظ عليها ،وهي أشهر من أن يختلف فيها اثنان من أبناء البلد :
وما من المنعوت والنعت عقل ++ يجوز حذفه ................ .
ان الحوار الهادئ الذي يقوم على أساس الجدال المثمر والطرح العقلاني بعيدا عن الهوى المتبع والشح المطاع والإعجاب بالرأي ،وبعيدا كل البعد عن الشروط التعجيزية التي تنوأ بالواقع والواقعية - وقديما قالوا: إذا أردت أن تطاع فاسأل المستطاع - لهو خير وسيلة لتوسيع دائرة التفاهم والتعاون نحو تحقيق غد أفضل لموريتانيا .
إن الدعوة التي وجهها رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز من مدينة شنقيط صبيحة الرابع من يناير خلال افتتاحه للنسخة الخامسة من مهرجان المدن التاريخية ،التي جدد فيها استعداده التام لحوار شامل يهدف إلى تحقيق المصلحة العليا للوطن ،والتي ما فتئ يجددها في كل المناسبات ،ينبغي بل يجب على جميع الفاعلين المصلحين بمختلف مشاربهم وألوانهم وأطيافهم السياسية أن يتناغموا مع تلك الدعوة بهدف تحقيق الحوار المنشود الذي يهدف إلى الحفاظ على استقرار البلد وأمنه ،ويقطع الطريق أمام من يحاول النيل من وحدته وسيادته وحوزته الترابية . إن على أولئك المصلحين أن ينساقوا في مساق ذلك الحوار،ولسان حالهم يقول :
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ++ بكاها فكان الفضل للمتقدم .
وإنني أربأ بالبعض أن ينزلقوا إلى دركات الشكوك في الجدوائية والنتائج ،واستباق الأحداث ،وقراءة ذات الصدور ،ناسين أو متناسين أن الحق ضالة المؤمن ،متى وجدها فهو أحق الناس بها ،وأن القول ينظر إليه أولا قبل النظر إلى ماورائيات قائله :
والحق مقبول ولو من غافل ++ فانظر لذات القول لا للقائل .
وإن صدور مثل تلك الدعوة من أعلى هرم في السلطة – لا خوفا ولا طمعا – لهو أكبر الضمانات لمن يحملون تلك الأوهام على أنه سيكون حوارا جادا وبناء بإذن الله تعالى .
اننا نهيب بجميع الغيورين المصلحين الذين يقدمون المصالح العليا للبلاد على مصالحهم الشخصية الضيقة إلى التقدم بخطى الثقة نحو الحوار الجاد والمصالحة الوطنية ،ولنعلم جميعا أن الإعراض عن الحوار والرغبة عن المصالحة والمصارحة لم يكن يوما من الأيام منقبة تحسب لصاحبها ،بل إنه سلاح أحد رجلين: أحدهما عاجز عيي في حججه ومقوله ،والآخر من يتستر على أمور يسوؤه أن تنكشف بين يدي المحاورين على رءوس الأشهاد .
اللهم اجعل بلادنا من خير البلاد ،واجعلها آمنة مطمئنة إلى يوم التناد ،ورد عنا زيغ أهل الزيغ وفساد أهل الفساد ،إنك يا مولانا رءوف بالعباد .