تعتبر الهوية سيرورة ثقافية واجتماعية ورمزية، يحدد من خلالها الفاعل الاجتماعي نفسه وموقعه وجماعته التي ينتمي لها، كما أنه من خلالها يحدد انتماءه إلى المجتمع العام، وذلك من خلال بنائه للعديد من المعاني والرموز حول بعض السمات الثقافية والاجتماعية التي تميزه عن الآخر،
سواء على المستوى المحلي أو الوطني والإقليمي.
فالمحددات الأساسية للهوية، هي العناصر الثقافية والتراكمات التي يعرفها كل مجتمع حسب تجاربه التاريخية، إلا أنه من الصعب ضبط هذا المفهوم، لأن الأمر يتعلق في الغالب بهويات ثقافية ودينية ووطنية وسياسية، ولسنا هنا بصدد الحديث عن مفهوم الهوية، نظرا لتشعب التعريفات التي قدمها الباحثون في المفهوم، والتي اختلفت باختلاف الخلفيات الفكرية التي يعتمد عليها كل تعريف، وحسبنا أن نقدم بعض الأفكار الأولية حول "أزمة الهوية في موريتانيا "والعوامل التي كانت وراء تشكل الأزمة و تجلياتها.
برز إشكال الهوية في موريتانيا مع بداية تحدد الملامح الجغرافية للقطر الموريتاني خلال السنوات القليلة التي سبقت الاستقلال، وأفرزت طبيعة هذا الواقع الجغرافي المتسم بالتنوع العرقي، والخاضع للخيار الجيوسياسي للمستعمر الفرنسي كيانا جديدا يضم عدة إتنيات تختلف في التطلعات وتتجاذبها الانتماءات الثقافية المتعددة شمالا وجنوبا وتتعد هوياتها بفعل مؤثرات تاريخية وحضارية تشابهت حينا وتقاربت أحيانا أخرى، وأنتجت حالات التقارب والتنافر نخبا سياسية وثقافية تعكس مدى الشرخ الحاصل في بنية النسيج الاجتماعي الموريتاني عربا وزنوجا ، وأصبح إشكال "أزمة الهوية" يصاغ في ثنائيات العروبة والإسلام، العروبة والأفرقة، وهذا ما دفع النخب الموريتانية بتكويناتها الإثنية إلى طرح السؤال التالي من نحن؟ وماذا نريد أن نكون ؟ وهو سؤال أثار الكثير من الجدل وسال حوله الكثير من الحبر بل ارتفع تناوله من مستوى النقاش النظري الساخن إلى حد الصدام الدامي بين أقطاب النخب القومية العربية والقوميات الزنجية وأصبح الإشكال يدور حول ازدواجية "الهوية السياسية والثقافية" فالهوية من حيث هي تحكمها مجموعة من المتغيرات وهذه المتغيرات بالنسبة للحالة الموريتانية لا تحسم الخيار.
فمن الناحية الجغرافية موريتانيا دولة طرفية في العالم العربي وهي دولة جوار بالنسبة لأفريقيا، أما من ناحية التركيبة الإثنية أو العرقية في موريتانيا فإن هذه التركيبة تتكون من أغلبية عربية وأقلية زنجية، بالإضافة إلى كون النخب الحاكمة للبلاد لم تستطع حسم خيار الهوية الموريتانية بقدر ما كانت تؤكد وتثير نفس الإشكال،
ومن هنا ظل الصراع قائما بين النخب العربية حول بعض القضايا المتعلقة بالهوية والانتماء وعلى رأسها مسألة التعريب في المناهج التربوية والوثائق الإدارية، حيث انشطر التيار القومي إلى قسمين؛ التيار القومي العربي والتيار القومي الأفريقي أو الزنجي، فالتيار القومي العربي يؤكد على أن موريتانيا دولة عربية ويدعو إلى التعريب الكامل والقضاء على التبعية الثقافية لفرنسا وهذا هو موقفه من المسألة باختصار
أما التيار الأفريقي أو الزنجي فيقف على النقيض من الموقف الأول إذ يعتبر موريتانيا دولة أفريقية وتقع ضمن فضاء إفريقي صرف ويرى أن سياسية التعريب خيار اتخذته النخب العربية لإخراج موريتانيا من مجالها العام، وسعيا محموما نحو عروبة لا يدعمها"التاريخ والجغرافيا"، وقد تغذى هذا الصراع على بعض العوامل الموضوعية أبرزها غياب الدولة تاريخيا و تحكم العقلية البدوية وسيطرة الولاءات العمودية والبني السابقة على الدولة، وكذلك ندرة المصادر الاقتصادية، حيث عانى المجتمع من هشاشة اقتصادية تسبب في النزوح من الريف إلى المدينة أدت إلى خلخلة النسيج الاجتماعي والاحتكاك بين عناصر تختلف مشاربها وتتعدد أنماط عيشها، ولم تفلح الدولة الموريتانية في الاهتداء إلى وضع طريقة للتعامل مع الواقع الجديد، كما أن النظام التربوي الموريتاني لايزال عاملا من عوامل التفرقة لأنه يعمل على تكوين ثقافيتين وحضارتين ونظامين من القيم لشعب واحد، ولم يستطع هذا النظام أن ينفذ إلى الفئات الهشة والضعيفة التي حالت أوضاعها الاقتصادية دون تلقي أبنائهم للتعليم المناسب،
وتسبب هذه العوامل مجتمعة في اتساع فجوة الانقسام الذي تحول في أحيان كثيرة إلى صراعات دامية بين الطلاب العرب وإخوتهم الزنوج، وكانت الجامعة المسرح شبه الدائم لتلك الصدامات العرقية، التي تلك كانت تلقى معالجات خجولة من طرف الأنظمة الحاكمة، وإن كان الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع قد قطع خطوات حثيثة في اتجاه حسم الإشكال لصالح النخب العربية إلا أن هذا المسعى أثار حفيظة الضباط الزنوج المنخرطين في صفوف المؤسسة العسكرية فقادوا حركات تمرد، ودبروا محاولات انقلابية مدعومة من طرف أطراف إفريقية وازنةـــــ السنغال على سبيل المثال ــــ ورأى البعض في توجهات ولد الطايع صبا للزيت على النار حيث أدخلت موريتانيا في أتون حرب عرقية راكمت من مشكل الهوية وأنتجت خطابا نخبويا متطرفا مشحونا بالدعوات والنعرات العنصرية النتنة، وأدت إلى أن تتعامل الأنظمة التي أعقبته مع الملف بنوع من الحذر الزائد فتعالت دعوات الانفصال، حيث عقدت حركة "افلام" الزنجية مؤتمرا صيف العام الماضي في قلب العاصمة الموريتانية نواكشوط وبشكل علني رفعت خلال المؤتمر علم دولتها التي تطمح لإقامتها في الجنوب الموريتاني وعلى ضفة النهر الرابط بين جمهوريات موريتانيا مالي السنغال، واستطاعت النخب الزنجية أن تحول الأزمة من مرحلة الدفاع إلى مستوى الهجوم، وانعكس تجذر الأزمة في المظاهر التالية
تجليات الأزمة
1التعددية الإتنية
.من المعلوم أن موريتانيا بلد تعددي تتعايش فيه إثنيات عرقية زنجية وعربية يعبر عنها في القاموس الشعبي" بالبيظان" وهم العرب البيض، و"لكور" وهو مصطلح يطلق على الزنوج بشرائحهم وفئاتهم المتعددة، ويتلخص تاريخ العلاقة بين العرب والزنوج في العديد من التحالفات والنزاعات التي عرفها المجال الموريتاني عبر فترات متعددة مع وجود تناقضات من خلالها يشحذ الوعي بالهوية المختلفة لكل مجموعة، وهكذا يمكن القول بوجود عدة أمم في موريتانيا إذا ما أخذنا كلمة أمة في معناها لكلاسيكي الذي يعني وحدة من البشر مستقرة متشكلة تاريخيا، ووحدة لغة وإقليم وحياة اقتصادية ووحدة في التكوين النفسي الذي يظهر في وحدة الثقافة، وانطلاقا من هذا التصنيف السيسيولوجي فإن موريتانيا تتشكل من أربعة أمم العرب؛ الفلان ؛ السوننكي؛ الولوف، كل واحدة من هذه المجموعات تحرص على صيانة خصوصيتها الثقافية. وفي سبيل ذلك يتولد مستوى من الخصومات السياسية والثقافية بينها وبين نقيضها الثقافي والسيسيولوجي يعكس عمق الأزمة وتحذرها
2الازدواجية اللغوية
يعتبر الإشكال اللغوي هو الأساس الذي تتأسس عليه كل الإشكالات المتعلقة بقضايا الهوية والانتماء وهو المحدد الأساسي للهوية الأنطولوجية والأيديولوجية لكل المجتمعات وتتعدد الهويات تبعا لذلك المفهوم. فمن هوية متحجرة ومنكمشة على ذاتها إلى هوية منفتحة على الآخر في علاقة أخذ وعطاء. وذلك هو غذاء ومعيار أي هوية ثقافية لا تريد الانقراض والانمحاء. ففي غالب الأحيان تموت هوية ثقافة ما لم تتفاعل مع محيطها الذي يطبعه عادة التنوع والاختلاف، وإدراكا من النخب الموريتانية لهذا الطرح فقد ظلت تعترف بأن اللغة تختزل كل إشكالياتنا الانطولوجية والإيديولوجية إلا أن كل تيار من تلك التيارات يحاول فرض رؤيته من دون الاعتراف برؤية وطرح الطرف الآخر، وتضيع الهوية الوطنية في هذا التجاذب السيزيفي، وكأننا في منطقة عازلة لا محل من الإعراب فيها للحلول الوسطية، أحرى للحلول النهائية ، وظلت هده المشكلة تطبع المشهد الموريتاني منذ رحيل الاستعمار الفرنسي وتسليمه البلد لقلة قليلة من أبناء المترجمين، ليتجسد هذا الصراع في شكل دستوري واضح المعالم، فتم ترسيم اللغة الفرنسية في أول دستور للبلاد 1961 ليأتي بعد ذلك دستور 1991، ليحسم القضية بترسيم اللغة العربية إلا أن هذا النص الدستوري لا يزال يعاني من التعطيل العملي، إذ لا تزال اللغة الفرنسية تختل الصدارة في أماكن العمل العامة وإدارات الدولة ومراسلاتها الخارجية وهو ما يعكس بوضوح حجم التحديات التي تواجه مشكل الهوية الثقافية والسياسية في موريتانيا