منذ أيام تقاعدت مجموعة من موظفي الدولة الموريتانية، كان من بينها الوزير-السفير- المستشار: الدكتور عبد الله/بنحميده، الذي تناولت المواقع على اختلافها نبأ تقاعده بشكل خاص، طبعته الشهادات المفعمة بالمحبة والعرفان بالجميل، لأن الرجل اشتهر وعرف بمحبة الخير للناس،
والسعي في خدمة المصلحة العامة، وبالتالي كان طبيعيا جدا أن لا يمر حدث تقاعده دون تعليق.
بنحميده كان جواز سفره إلى قلوب الضعفاء والمستضعفين هو حالة الانفتاح عليهم، المشفوعة بالعمل بجدية وإخلاص على مساعدتهم، ودعمهم في مشاوير حياتهم ماديا ومعنويا، وحمل همومهم ومشاكلهم إلى حيث تجد حلولا، فلطالما كان منزله قبلة للعموم والخصوص على حد سواء، ولطالما كان مكتبه محجا لطالبي العون والمساعدة على نوائب الدهر، وغوائله، وحيثما وجد كانت القلوب تلهج بالثناء عليه قبل أن تثني عليه الألسنة، فإخلاصه لقضايا وهموم الإنسان الموريتاني كان كفيلا بأن يحفظ له مكانة مرموقة في الذاكرة الموريتانية، التي تفتأ تذكر بنحميده حتى تكون حرضا.
لقد كانت أيادي بنحميده بيضاء على وطنه، وأبناء وطنه، وكانت أعماله الخيرية والاجتماعية ملجأ ومهوى لأفئدة الضعفاء والمقهورين والمضطهدين والمسحوقين، فقد أدرك باكرا أن رجل الدولة الحقيقي هو الذي لا يستبد بالسلطة، ولا يتعالى على أبناء جلدته، ولذا جعل حظه من السلطة في خدمة الشعب بكل أطيافه ومكوناته، ونأى بنفسه عن كل ما يمكن أن يخدش الشعور، أو يمس بالشرف والاعتبار متبنيا منذ الوهلة الأولى قضية الانسان الموريتاني، المتمثلة في حقه في العيش الكريم، الضامن لحقوقه وحرياته الأساسية.
ويستصحب المخيال الشعبي الكثير من القصص التي تشهد لصاحبنا بأنه نموذج مثالي صالح، يحتذى به، إذ كان مدرسة تنضح بالدين والأخلاق والقيم النبيلة، كان ذا ضمير نازع إلى الخير، غير مفتتن بالشر والخيلاء، وكان مثاليا في تعاطيه مع الوجع الموريتاني أينما وجد، ولذا لم يغلق على نفسه الدار أو المكتب في وجه الملتجئين إلى جنابه شكاية من الحال والزمان، وطلبا لحالة من التوفيق الإلهي، توجد عند قوم تقضى على أيديهم حوائج الناس، وكان عبد الله بنحميدة يتيمة العقد في زمانه في التعاطي مع البؤساء والمحرومين، وفي فتح الباب على مصراعيه لاستضافة المواطن، ومناصرته ومؤازرته.
لم يعتبر الدكتور عبد الله السهر على مصالح البسطاء خروجا على قواعد الاتيكيت، كما هو حال الغالبية العظمى من موظفي الدولة الكبار، بل استشعر عذوبة الإحسان وعاش المسؤولية في أوج عطائها، واستلهم قيم الكرم والشهامة والسماحة، وجسد مفهوم العمل الإسلامي الصحيح، ذلك العمل المنبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، دون ميز أو تنقيص من أحد، وهنا جاز لنا القول بأن بنحميده مثل سمو النفس، وتجلى ذلك السمو في الصفات والخصال الحميدة، الدالة على طيب الأرومة، وجودة المنبع، وصفاء السريرة، فالرجل كان بسيطا، طيبا، عميقا، صابرا، ثر العطاء، مدافعا شرسا عن مصالح الناس، محبا للخير. وهل تلك السمات إلا انعكاسات لطبيعة النفس الخيرة؟ ...
ولم تكن الصفات السالفة لطيب السيرة لتكون مجتمعة في بنحميده لولا أنه كان مجبولا ومطبوعا على الصدق، والعفوية، والإخلاص وكان يرى الأشياء بعين مجردة صافية، بعيدة عن مزالق الإيديولوجيا، وشطحات الأفكار السلبية، التي يغيب فيها الوازع الديني، وتنافي الفطرة السليمة.
إن بنحميده قارع قوى الشر بقلمه وعمله وعطائه ومثابرته، وبغضبه ونقمته على كل ما يمت للظلم بصلة، وسطر بعفوية اسمه بين العظماء بشموخه ونضاله وأريحيته، وحدته في مواجهة القهر والتسلط، وبترسيخه لحياة عملية ناصعة، تنبض بصوت التمرد على صورة الموظف الكلاسيكي، الذي لا يواسي أحدا سوى الإدارة، ولا يحس إلا بآلامه الذاتية وبجيبه الفارغ، وهي صورة سيئة يجب أن تحارب، فالموظف هو من يخدم المصلحة العامة في كل ماهية متفانيا في مسؤولياته الدينية والإدارية، واقفا إلى جانب المطحونين والمقهورين، مصداقا لقوله "ص": الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".
وإذا كان بنحميده جابه تعب وشقاء الموريتاني العادي، فإننا إذ نقدم هذا المقال شهادة على التاريخ، وحفظا لذاكرتنا الجماعية، لنطلب من ثاقبي البصيرة أن يجدوا العبر اللازمة في سدنة هذا الوطن من أمثال بنحميده، فلن يفسد المجتمع ما دام يضع نصب عينيه النماذج المثالية، ويتحلى بأخلاق الأفاضل والأكابر وقيمهم.
وإلى جانب ما سبق كان بنحميده شخصية متعددة المواهب والروافد، اهتم بالشعر والأدب، والمسرح، والثقافة العامة، والعلوم والمعارف المختلفة، وحمل شهادة الدكتوراه من الجامعات المصرية في وقت مبكر من حياته، يتحاذى مع بداياته في التوظيف، ولا غرابة فالرجل ينتمي إلى أسرة مثقفة، لها باع في التصوف والعلم، ولها وزنها الاجتماعي، وقد ألف بنحميده العديد من الكتب، نشرت وطبعت من قبل دور نشر عالمية، وقرأ له المهتمون والخبراء والدارسون كتابه الشهير: "الشعر العربي الفصيح في بلاد شنقيط: النشأة والأصول"، وهو كتاب قيم، تعرض من خلاله الرجل لتاريخ موريتانيا والانتروبولوجيا المحلية فيها، ولقبائلها، وللأدب والثقافة البيظانية، وغدا مرجعا يكاد يقترب من أن يصبح مصدرا، فعلى ذلك الكتاب تتلمذ الكثير من طلاب المعرفة كبارا وصغارا، ومنه أخذ كثيرون معارفهم وثقافتهم عن موريتانيا، وتعرفوا عن كثب على بلاد شنقيط، بلاد المنارة والرباط، أرض الرجال، معبر القوافل، بلاد المليون شاعر وقافية.
ومن محبة الرجل للخير وأهله فإنه عرف بقربه الشديد من الشيخ الكبير، العارف الرباني والقطب الصمداني، الشيخ أعليشيخ ولد أمم تغمده الله بواسع رحمته، الذي كان دوحة وارفة يستظل بها الضعاف، كما أن والدة بنحميده من كبار مريدي العارف بالله الشيخ الحاج المشري أطال الله بقاءه، الموجود في قرية "معط ملانه"، التي فيها قوم يتلون القرآن آناء الليل وأطراف النهار. قوم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.