صادفني القدر ذات يوم مع شيخ وقور ظاهر الوضاءة بين النضارة، إذا سكت فعليه الوقار وإذا تكلم سَما وعلاه البهاء، فقلت من هذا؟ فقيل هذا "شيخنا الصدوق" رجل تجلت عليه الوَلاية وسبقت له العناية! فاستمسكت بثيابه وتعلقت بأهدابه وطلبت منه أن ألازمَه ملازمة الظل لصاحبه ولا أفارقه في حله وترحاله،
لأستنير برأيه وأستفيد من علمه، فقَالَ (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) فقَلت له: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)، فوافقته على شرطه وأعطيته عهدي على أن ألتزم بأمره ونهيه.
فانْطَلَقنا من مدينة النعمة متجهين إلى بلدة النقمة حتى إذا كنا في منتف الطريق مررنا برجل طويل القامة عظيم الهامة، قد انتفخ بطنه وتدلى ذقنه، وهو يكابد إخراج سيارته من الرمل بعد أن ساخت فيه حتى أعياه ذلك، فطلب منا النجدة والشراب، فناوله الشيخ قارورة ماء تغلي من الحَر، فلما شربَ منها تقطعت أمعاؤه، وصار كالمستجير بالنار من الرمضاء، فاستنكرت صنعه واستغربت فعله لكني لم أنبس بكلمة!
ثم واصلنا المسير حَتَّى إِذَا أتينا أهل قرية على الطريق ونزلنا بها لنستريح، خرج إلينا أعيانها واندفعوا يقبلون يد الشيخ وهم يرددون عبارات الترحيب والتبجيل، فما كان من شيخنا، إلا أن أعرض ونأى بجانبه ثم أخذ حفنة من تراب وحثاها في وجوه القوم وقال شاهت وجوهكم لا نعم عوفكم ولا أمن خوفكم! فقلت له لم فعلت ذلك؟ (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)؟ قَالَ: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا" فقلت له: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).
ثم واصلنا المسير حتى إذا بلغنا مشارف مدينة لعيون تراءى لنا شرطي يرتدي بزته الأمنية وهو يقف على قارعة الطريق عند نقطة التفتيش، فلما وصلنا إليه، بصَق الشيخ في وجهه ووكزه بيده وضربه بعصاه على قفاه! فقلت له سبحان الله! كيف تضرب شرطيا يبيت ساهرا على مصلحة البلد ليوفر له الأمن والاستقرار؟ ألم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم "عينان لا تسمهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله" فتمَعر وجهه، وقَالَ: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)؟ فقَلت له: (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا).
فَانْطَلَقنا حَتَّى إِذَا وصلنا إلى مدينة ألاك نزلنا إلى مَطاعِمِها لنَسْتطعِم طَعامها، فمر بنا نائب برلماني يستقل سيارة فخمة، فاستشاط الشيخ غضبا، وقال لا نجوت إن نجا، ثم رماه بسهم مسموم خرج من شدقيه ودخل بين فكيه فألجمه عن الكلام! فقلت له: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا)؟ ثم سَرَدت له ما تيسر من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في حق من ارتكب جرما من هذا القبيل! (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرً).
أما الرجل البطين فقد نبت جسمه من المال الحرام وقد رمت به الأقدار إليَّ فعاقبته بما يستحق، وأما أعيان القرية فهم وُجهاء بلا وُجوه، يتملقون ويتزلفون لكل جبار مُستكبر، فكان ذلك جزاؤهم! وأما الشرطي فموظف فاسد يتخذ القانون شبكة صيْد يَصطاد بها الضعفاء ويستثني منها الأقوياء، وأما النائب البرلماني فمنافق يَسكت حيث يجبُ الكلام، ويتكلم حين يَجبُ السكوت! (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا).
ملاحظة: القصة منسوجة من محض الخيال، والهدف منها هو تسليط الضوء على الواقع المعاش.