تجارةُ القوافلِ / محمد يحيى بن محمد بن احْرَيْمُو

 وجهٌ آخَرُ للوِحْدة الإفرَيْقية

مثلَّتْ تجارة القوافل  منذ الفتح الإسلامي للمغرب العربي أهمَ رافد اقتصادي وثقافي لمنطقة غرب إفريقيا ، ولم يقتصر أثرها على الجانب الاقتصادي فقط  بل كان لها تأثير هام  على مختلف جوانب الحياة العلمية والسياسية والاجتماعية   .

ويعود للتجارة عبر الصحراء الفضل في نشر الإسلام وتعريف السكان الأفارقة عليه ، وفي إيجاد أجواء من التسامح والتعايش عملت على تعزيز السِّلم والأمن  في المنطقة  نتيجة التكامل الاقتصادي الذي أملته ظروف البيئة والمناخ في  المنطقين العربية والإفريقية ؛ لقد فرضت حاجة كل من الفريقين إلى (المزايا النسبية) التي تفضل الله سبحانه وتعالى بها على الآخر. إنها بحق حالة فريدة من السلم  فرضها الواقع وأملتها الضرورة وظلت تترسَّخُ وتتعزَّزُ عبرَ العصور.
تقوم  التجارة عبر الصحراء على توفير التكامل بين اقتصاد المنطقتين الإفريقية والعربية  حيث تجلب القوافلُ الثياب والأواني والأدوات الصناعية والملح  من الشمال إلى الجنوب ثم تعود محملة   ببضاعة المناطق الإفريقية  وأهمُّ مكوناتها : الذهب والعاج والحبوب والرقيق ... وهي سِلعٌ غالية وثمينة جدا . 
لقد أدى تخلف المناطق الإفريقي في الجانب الصناعي وحاجتها الماسة إلى الملح ووفرة معادن الذهب فيها إلى إيجاد " قيمة مضافة " على كل البضائع والسلع المجلوبة إليها من الشمال، كما أن حاجة الصحراء القاحلة  إلى الحبوب  كانت هي الأخرى عاملا أساسيا في تلك المعادلة فضلا عن أهمية الذهب وغيره من السلع الأخرى.    وقد زاد من ذلك وعورة الطريق وما يتعرض له المسافرون فيها من تعب ومخاطر  . وبذلك كانت التجارة عبر الصحراء تًدرُّ أموالا وأرباحا خيالية  .
وقد بنى ابن خلدون نظريته في نقل البضائع وترصُّد " القيَّم المضافة " على ما شاهده من عائدات  التجارة عبر الصحراء حيث يقول:
"   وكذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة، أو شدة الخطر في الطرقات، يكون أكثر فائدة للتجار وأعظم أرباحاً ... لأن السلع المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة...  وإذا قلت وعزت غلت أثمانها... ولهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس وأكثرهم أموالاً، لبعد طريقهم ومشقته، واعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف والعطش ...  فلا يرتكب خطر هذا الطريق وبعدَه إلا الأقلُّ من الناس. فتعظم بضائع التجار من تناقلها وتُسرع إليهم والثروة من أجل ذلك" ( مقدمة ابن خلدون ) .
  وتعتبر منطقة المجابات الكبرى (ملتقى  الحدود بين موريتانيا ومالي والجزائر )  .   وهي  صحراء واسعة لا ماء  بها إلا نادرا تعدو فيها الطبيعة وتكثر بها عواصف الرمل  ...  ، كما أنها  مَضَلَّة ليست بها أي أعلام  يَهتدي  بها المسافرون وقد وهب الله سبحانه رجال الصحراء قدرة عجيبة على الاهتداء في هذه الصحراء  من خلال تحسس مهب الرياح ومطالع النجوم وشم التربة ومعرفة تضاريس المناطق المختلفة ونبات كل ناحية منها .      ومثلها في ذلك المناطق المعروفة بالواسعات (بين تيرس والساقية الحمراء ) .
وقد تحدث ابن بطوطة في رِحْلته  عن المصاعب التي واجهها في الطريق بين  تاودني وولاته فذكر أن القافلة كانت تسير الليل كله ولا تنيخ إلا في الزوال تجنبا للحر   .
يتطلب تسيير القوافل  جهازا إداريا يتولىّ الإشراف على تنظيمها وترتيب شئونها ، ويتكون الجهاز الإداري للقافلة من رئيس ومساعديه ومجموعة من الأدلاء  والحراس المسلحين في بعض الأحيان ويتكفلون بحماية القافلة وصد أي هجوم محتمل .    
يُختارُ  الرئيس على أساس مكانته الاجتماعية وتجربته الميداينة و هو المسئول الأول عن تنظيم  القافلة فهو الذي يملك الأمر والنهي في الرحيل والإناخة وإدارة شؤون الرفقة والتفاوض باسمها في حال ما إذا تعرضت لأي خطر، ويتولى إحصاء حمولة الرفقة وحفظ الودائع ويقومُ بتقييد ذلك كله في كتاب "زمام الرفقة" أي الكناش الذي يحوي حساب الإبل والحمولة وأسماء أرباب الودائع وعدد ودائعهم.
ذلك أن طبيعة التكافل والتعاضد الذي رسخها الإسلام كانت تفرض على التجار ومسيري القوافل أن ينَوبوا عن الضعفاء العاجزين عن السفر  ويَتَجِرون لهم  بأموالهم كما يتجرون لأنفسهم.
ونضرب المثل على ذلك بقافلةٍ من قوافل  " تشيت "  خرجت  سنة 1315 وهي تحوي 250 بعيرا محملة بنحو ألف وخمسمائة رأس من الملح ويشرف على تسييرها سبعة أفراد فقط  ومع ذلك فإن عدد المشتركين في هذه القافلة يناهز ثمانيين شخصا  .
تتكون القافلة الصحراوية من مجموعة من الجمال يتم اختيارها وإعدادها لهذه الرحلة الشاقة- التي تتطلب قوة وجهدا- بتسمينها وتركها سائمة في الرعي لفترة طويلة كما يقول الشاعر الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَّ :
فملكه الرعاة الأمر حتى       =    كساه الني نسج المرفقين
تُثبِّطه أداهمُ من حديد     =        ينوء بها مداني الساعدين
ولئن كانت التجارة عبر الصحراء قديمة وضاربة في  أعماق التاريخ فإنها  شهدت في العصر الإسلامي ازدهارا ورواجا  منقطع النظير .
وقد حرص ولاة وملوك الدول الإسلامية في المغرب العربي  الإشراف المباشر على تنظيم  هذه التجارة لإنعاش  الاقتصاد والاستفادة  من عائداتها  وفي هذا السياق تذكر المصادر العربية أن عبد الرحمن بن حبيب الفهري الذي حكم تونس "129-138" وقد قام بجهود هامة لرعاية التجارة عبر الصحراء وأنه  ت وأنه انبط عددا من الآبار على طول الطريق الرابط بين أوداغست ومدينة تامدولت الواقعة بالسوس الأقصى بالمغرب .
وفي القرن الثالث الهجر ي نشأت مدينة أوداغست التي كانت إلى جانب " كومبي صالح " عاصمة غانة أهم مراكز التجارة الصحراوية فتداعي إليهما التجار من المغرب والمشرق وضرب بهما المثل في كثرة ال1هب والخيرات  .
وكذلك اهتم المرابطون والموحدون والحفصيون وغيرهم بالتجارة  عبر الصحراء ونفس الشيء بالنسبة للدول الافريقية . 
لقد كان التجار المسلمون كما ذكرنا سابقا وراء انتشار الإسلام في دولة غانة وفي تكرور وسلي ( على الحدود الشينغالية الموريتانية) وفي امبراطورية مالي التي أسلم ملكها في القرن الخامس الهجري على يد تاجر وفقيه من قبيلة لمتونة ، وهكذا فبواسطة تجارة القوافل  دخل الإسلام إلى منطقة غرب إفريقيا  وانتشر بين سكانها وخرجوا بذلك من ظلمات الجهل والكفر إلى  نور الإيمان والهداية ، كان لهؤلاء التجار النصيب الأكبر في الدعوة إلى الإسلام وتعريف السكان المحليين به ، بحيثُ يمكنُ أن نعتبر أن  " الفتحَ الإسلامي للقارة الإفريقية كان فتحا تجاريا دعويا " .
والطريف أن هذا النشاط الدعوي المصاحب لتجارة القوافل لم يتوقف حتى بعد دخول الاستعمار ،  حيث ساهم دخول الاستعمار في تأمين الطرق وازدهار التجارة ؛ فأصبحت أمام  التجار المسلمين من أبناء إفريقيا فرصة لدخول مناطق لم يكن يمكنهم الوصول فانتشر الإسلام بين أهلها وخير مثال على ذلك جمهورية بوركينا أفاسو ومناطق في مالي والسينغال وغينيا لم يدخلها الإسلام إلا في عهد الاستعمار ! وإن الله لينصر هذا الدين بالدولة الفاجرة كما ينصره بالرجل الفاجر !!  .

   لقد أدى توافد التجار المسلمين إلى غانة وغيرها من المناطق السودانية في القديم إلى خلق أجواء من التسامح والتعايش بين الإسلام والديانات الوثنية ، لكنه كان في النهاية لصالح المسلمين نظرا لتفوقهم الحضاري والفكري ولما يحمله دينهم من تسامح وقيم فاضلة ومع مرور الزمن تحول سكان تلك المناطق إلى الإسلام عن الطريقة الدعوة ._
وفي هذا السياق فقد أشار البكري إلى  المكانة الخاصة التي حظي بها المسلمون في دولة " غانة " كبرى الامبراطوريات السودانية في المنطقة :
"... ومدينة غانة مدينتان... إحداهما المدينة التي يسكنها المسلمون، وهي مدينة كبيرة فيها إثنا عشر مسجدا أحدها يجمعون فيه وبها الأئمة والمؤذنون  وفيها فقهاء وحملة علم وفى مدينة الملك مسجد يصلى فيه من يفد عليه من المسلمين على مقربة من مجلس حكم الملك...   وتراجمة الملك من المسلمين وكذا صاحب بيت ماله ومعظم وزرائه " ( المسالك والممالك للبكري 175) ...
وقد كان للموريتانيين قديما وحديثا دور كبير في تسيير القوافل حيث كانوا يسيطرون على نسبة كبيرة من تجارة القوافل بحكم وقوع البلاد على منتصف الطريق بين الشمال والجنوب ووجود أهم سِباخ الملح فيها ولذلك ظلت التجارة الصحراوية رافدا هاما من روافد الاقتصاد المحلي مع ما لها من تأثير على مجريات الحياة السياسية والثقافية ...
ارتبط عمران المدن التاريخية في موريتانيا  بتجارة القوافل  ذلك أنها نشأت في البداية كمحطات للقوافل ومراكزَ للتسوق فكانت تجارة القوافل تمثل شريان الحياة داخل هذه المدن وبتراجع دور التجارة نتيجة الاستعمار وازدهار التجارة الأطلسية تراجع دور تلك المدن وهجرها معظم سكانها.
كانت " كونبي صالح وأوداغست " أهمَّ مراكز التجارة عبر الصحراء في بداية العصر الإسلامي ، ثم اندثرت تلك المدن في القرن لسابع وحلت محلها المدن الحالية " ولاتة تشيت  شنقيط ودان  تنيكي "  وعلاوة على ذلك فقد شارك الشناقطة في تشييد مدينة " تنبكت " أهم مراكز التجارة عبر الصحراء في عهد دولتي مالي والسونغاي وكان لهم تمثيل كبير في مختلف المراكز الاخرى في الساحل .
وقد شهدت هذه المدن في أوج ازدهارها نشاطا تجاريا كبيرا يقول سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في رسالته  ك" وخرج يوما من شنجيط، اثنان وثلاثون ألف جمل موقرة بالملح عشرون لأهله، واثنا عشر لأهل تيشيت. وباعت الرفقة كلها في زار. فتعجب الناس أي البلدين أعمر " ( سيدي عبد الله صحيحة النقل في علوية إدوعلي  مخطوط ) :

ويقول  محمد محمود بن الشيخ الأرواني في كتابه " الترجمان في تاريخ أروان..." :
" وقد قدم تجكانت الساحل ( تيندوف) إلى أروان ذات مرة في  في قوافل من  اثني عشر ألف ناقة " .
ومع أن بعض الباحثين يستبعد صحة هذه الأرقام إلا أن هناك بعض العلماء الذين دونوا أرقاما قريبة من هذا في العصور التي عايشوها مثل محمد البشير بن الحاج الهادي الولاتي في نوازله (1190هـ ) .

وزيادة على المزايا الاقتصادية والثقافية  للتجارة عبر الصحراء فقد كان لها تأثير كبير على مسار الحياة السياسية والاجتماعية ويعتبر بعض الباحثين من أمثال عبد الله العروي والدكتور عبد الودود ولد الشيخ  أن تنظيم  التجارة عبر الصحراء يُعتبر عاملا أساسيا في نشأة و استقرار الكيانات و النُظم السياسية في المنطقة .
وقد كان للإمارات والمشيخات السياسية في موريتانيا دور بارز في تنظيم التجارة الصحراوية وكان هؤلاء يتقاضون ضرائب ومغارم عُرفية مقابل تأمين القوافل في المناطق التابعة لنفوذهم   .
وقد اعتبر بعض الفقهاء أن هذه المغارم إذا أخذت مقابل حِماية وخِدمة  ملموسة تكون من قبيل المباح الذي لاحرج فيه ، فهي مستثناة من المكوس الممنوعة ومن هؤلاء الفقيه الحبيب بن أيد الأمين الجكني (نـ حوالي 1130هـ) في فتوى له .
ومع أن الاضطرابات السياسية والأمنية كانت الطابع العام في تلك الفترة إلا أن هذه الاتفاقيات  كان لها أثر قيّم في المحافظة على أمن القوافل خصوصا في بعض الفترات. وكثيرا ما يُمدح الأمراء والأعيان بالمحافظة على الأمن وحماية الطرق والمسالك التجارية يقول الشاعر الشعبي سَدُّوم بن انْجَرْتُ في مدحه للأمير بكار بن أعمر أمير إدوعيش (1175هـ )  :

                             دخَّلتَكْ حَرمَ للقهار *** يجَرمْ الخَصْلة والترياسْ
ياشيخ العربية بكار  ***  ولد أعمر طَبْ أهل التَّعْكاسْ
يامْسَنْ اكرونْ أهل أكبارْ***  ويامسن اكرون اهل انتماس
أي المسئول عن تأمين أهل أكبار أي  القافلة والضامن لخفارتهم .
ويقول العلامة محمد عبد الرحمن بن المبارك بن اليمين القناني في مدح الأمير العادل أحمد بن مَحمد بن أحمد عيدَّة  أمير آدرار:
من عافيتْ أحمد ألْ مْحمدْ = ولْ أحمد ما يگبظْ لغْيارْ
حدْ ألْ  حدْ  ولا يعطِ حدْ = أل حد أتلَ ماهُ الأخْبارْ
إلى أن يقول:
واهْناتْ الخيمة واتْكيت = والنجارْ وذَ من الأخبارْ
اتراهْ إلا جيْتْ أغْمَنْجِيتْ = والنعمة وادخلتْ أگصارْ
ولَّ لأهل أطارْ إلآ جيت = والگيت أهلْ أطارْ وخطارْ
شنگيطي وارفايگ تشيت = والگوْمْ أل كانت فالدارْ .

ويرسمُ  القاضي والشاعر محمد بن محمد الصغير بن ابنوجا التشيتي مشهدا معاكسا في ظروف أخرى :
سبحان ربك رزاق المساكين = من أهل تيشيت من أرض السوداين
كم دون أرزاقهم من مَهْمَهِ قذف = ودونها من أبي سيف وهَنُّونِ.

لقد كان معظم الأمراء والشيوخ يفضلون المصلحة الإستراتيجية الدائمة على المنفعة الآنية وهو ما جعلهم يحافظون على تأمين القوافل وحمايتها، وقد أشار أحد أمراء الموحدين في رسالة إلى ملك غانة الوثني حينما اعتدى على بعض التجار المسلمين إلى هذا فقال له : " وأما قتل التجار فليس من عادة الملوك لأن بهم عمارة البلاد ومعاش أهلها بغض النظر عن دينهم ومذهبهم " إلخ كلامه وقد نقلته بالمعنى وهو في كتاب مفاخر البربر على ما أذكر .

وقد  كتب  الأمير  أحمد بن عثمان بن الحبيب الناصري  إلى تجار " أولاد بسبع وتكنة "  آخر القرن الثالث عشر الهجري يستدعيهم فيها إلى  بلاده ويؤكد لهم أن المشاكل التي بينهم وبين بعض القبائل منطقته لن تشكل عليهم أي خطَر إذا قدموا إلى منطقته، ويؤكد على ضرورة حياد السلطة السياسية تجاه التجار .
تلك إذاً جوانب من الوحدة الإفريقية كما رسمها تجار القوافل الذين كانوا رسل سلام ومحبة حملوا راية الإسلام ونشروا اللغة العربية في أعماق  إفريقيا ، وتركوا لنا – معشر الشناقطة – صيتا حسنا جعل المسلمين الأفارقة يعترفون لنا بالفضل والتقدير الزائد مما يُحتم علينا النهوض بأعباء تلك المهمة الشريفة التي بدؤها والتي كانت وجها  مشرقا للوحدة الإفريقية في الزمن الخالي   .
 

27. مايو 2015 - 8:45

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا