أخــيرا - وبعد غياب طويل عن المشهد - أعلن الدكتور الشيخ ولد حرمه اعتزاله الحياة السياسية، مدشنا بذلك سنة " الاعتزال السياسي" الذي كان غائبا عن نخبنا السياسية، التي تعتبر " التسيس" فريضة على كل مواطن، من المهد، إلى اللحد، ما يجعل موقف ولد حرمه هذا جديرا بالتوقف عنده،
لفهم أسبابه أولا، وانعكاساتها المستقبلية على الحياة السياسية الوطنية، وعلى منتدى الديمقراطية والوحدة بشكل خاص، وذلك بالتوقف عند ملاحظات بارزة.
الملاحظة الأولى: اعتزال بعد نضال..
رغم أن د/ الشيخ ولد حرمه هو بالأساس طبيب، إلا أن ميول الرجل السياسية واضحة، ومشواره السياسي حافل، لكن المفارقة أن ولد حرمه أبلى في السياسة بلاء حسنا، وانتقل من أقصى اليمين، إلى أقصى اليسار، قبل أن يعتزل، ويفتح النار على الجميع، كان الرجل قبل سنوات قليلة وزيرا للصحة في النظام الحالي، دافع عنه باستماتة، وحاول القضاء على خصومه، بعزم الطبيب في القضاء على المرض، برع الرجل في ذلك، واشتهر، قبل أن تحل به سنة الإقالة المفاجئة، ليدشن حينها رحلة العبور إلى الجسر الآخر.
ولى ولد حرمه وجهه شطر المعارضة، وفاق المعارضين معارضة، بل قال البعض إنه كان أكثر ملكية في معارضته من المعارضة نفسها، لم يجد غضاضة، ولا معرة في كيل الانتقادات، والاتهامات للنظام الذي كان وزيرا فيه، معلنا أنه اكتشف - ولو متأخرا - أنه نظام فاسد مفسد، ومستميتا في الإطاحة به، وأبان ولد حرمه عن قدرات لغوية، إنشائية، وبلاغية كبيرة، عبر سلسلة مقالاته النارية ضد النظام، المعروفة ب " المسار الحانوتي".
الملاحة الثانية: الهجوم المبطن على المعارضة..
لقد اتبع ولد حرمه في بيان اعتزاله السياسة أسلوبه الفلسفي الجدلي المعهود، بلغة راقية، لكن سهام النقد، بل وحتى الاتهام، والتبخيس لزملاء الأمس في المعارضة بدت واضحة بين سطور بيان ولد حرمه، فقد اتهم الرجل المعارضين – دون تسميتهم- بالقول :"
"فمن حق الجميع التلهي برسم ما شاء من أوسمة لبطولة وهمية، والكذب على الذات بحمل النيابة عن الشعب"
وأضاف ولد حرمه أن النخب السياسية، المعارضة، والموالية لم تكن على قدر المسؤولية، ولم توفق في عملها، وهو انتقاد كبير من ولد حرمه للمعارضة، عندما يتحث عنها بقدم المساواة مع الموالاة، ويطلق الحكم ذاته على الطرفين، إذ يقول:
"فلا الموالي استطاع التغيير من الداخل، وجذب مقود النظام إلى مناطق إبحار مأمونة تنمويا واجتماعيا و سياسيا، ولا المعارضُ أبدل بقطيعته التامة للنخبة العمودية التي بيدها عقدة التغيير، انتشارا أفقيا، يمكن من خلق رأي عام قادر على تجاوز مرحلة الولاء الغرانيتي "للدولة الفرد".. تلك الدولة التي لا نحتاج شمعة لنتبين الشروخ العميقة في أرضية مركبها المتآكل"
الملاحظة الثالثة: استجداء الجيش..!
لقد بدا واضحا أن ولد حرمه يغازل الجيش خلال بيانه الاعتزالي، بل ويستجديه للقيام بعمل ما، مؤكدا أن الفعل المؤثر في السياسة الموريتانية لابد أن يكون من صنع الجيش، أو يقف خلفه، وإثبات الجدارة لتدخل الجيش في السياسة، والحديث عن ذلك بلغة "مهادنة" في مقابل إثبات الفشل للنخب السياسية، والحديث عنها بلغة " الاحتقار" لا يخلو من دلالة، وكأن ولد حرمه يدعو الجيش لفعل شيء ما الآن، حيث يقول:
" منذ انقلاب العاشر يوليو 1978، ظلتْ "النخب" العسكرية المتعاقبة وحدها الفاعل الميداني في عمليات "التغيير"، التي لم تقترب من الجوهر ولو في الخطابات النمطية المترهلة.. بينما ظلت النخب السياسية – والاستثناء قائم بالطبع – نخب تطبيل أو عويل.. تزمير أو تحذير، تحصيل أو تبذير، تخدير أو تجمير.. نخب مقاعد و محاصصات، وحوارات مجتزأة كأنها تجري داخل الجيوب، وكان أداؤها السياسيّ أكثر عالة على البلاد منه مصلحة لها.. يستوي في ذلك الموالي والمناوئ.. وأذكَّر بأن الاستثناء ما يزال قائما"
وأضاف ولد حرمه في حديثه عن دور الجيش في السياسة :
" لقد توصلت إلى قناعة راسخة بأن التغيير الإصلاحي في هذا البلد، بواقعه الاجتماعي والسياسي الحالي، الملوث والمتكلس، لن يحصل دون إرادة واعية موفقة و مشاركة حاسمة ومؤسسة من الجيش.. وإلى أن تتهيأ الظروف لذلك.. فلا تروق لي المشاركة في "حفلة النفق المغلق " انتهى الاستشهاد.
الملاحة الرابعة.. الانهزامية، والاستسلام
رغم أن العمل السياسي هو فعل تراكمي، ومفهوم الفشل فيه نسبي إلى حد كبير، إلا أن ولد حرمه أكد أكثر من مرة في بيان اعتزاله أن الحياة السياسية وصل مرحلة النفق المظلم، مضيفا أن محاولة العمل السياسي في هذه الظروف هو عمل عبثي، ناصحا ولد حرمه زملاءه المعارضين أن سيتسلموا للفشل، ويتركوا الحياة السياسية حتى تنضج الظروف، وكأنه يقول لهم: ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) وكأن "الشيخ" يقول للجميع: عندما دعمت النظام كنت محقا في ذلك، وعندما هاجمته كنت على صواب، واليوم عندما أهاجم المعارضة، والنظام معا فقد أصبت كبد الحقيقة.!
الملاحظة الخامسة:ماذا بعد ؟!
لقد أكد د/ ولد حرمه أنه لم يتخذ قرار " الاعتزال" بتسرع، بل درسه مليا، وشرح مسوغاته، ورغم النظرة التأييسية التي سوقها الرجل، إلا أن من يقرأ البيان بتمعن يدرك بوضوح أن ولد حرمه لم يحرق مراكب العودة للحياة السياسية، فالرجل يقول في بيانه:
" على أنني، وإن كنت قررت اعتزال العمل السياسي، فإنني سأبقى مهتما بالشأن العام الوطني و ما تصير إليه أمور البلد، و سأواصل بحول الله، سلسلة مقالاتي و مداخلاتي الفكرية التي أسعى من خلالها لإثراء النقاش الفوقي الحر حول مصالح بلادي وأمتي".
فهل يسعى الرجل لتحقيق ما عجز عنه في السياسة باعتزال السياسة ؟! لقد تنبأ ولد حرمه بردود الفعل على قراره الاعتزال السياسي، لكنه استبقها بقوله:
" أتصور أن البعض لن يفهم حق الفهم دوافعي الحقيقية ل"الترجل السياسي" في هذه المرحلة. قد يثار حول ذلك لغط كبير، وهمس كثير، في ساحة قلما تنتج غير اللغط والهمس السلبيين.. باختصار شديد لستُ مستعدا للمشاركة، لا تمثيلا ولا فرجة، في مسرح عرائسي عبثي يكرر ذاته على مدار العقود".
قدرة د/ الشيخ ولد حرمه على تبرير خياراته، وتسويق آرائه، مهما كانت مفاجئة، وصادمة، تجعلنا نتوقع قرارا جديدا، والبيان رقم2 يعلن فيه ولد حرمه العودة للحياة السياسة، ربما من بوابة ثالثة هذه المرة، لاهي معارضة، ولا هي موالاة، والأكيد أن الرجل لن يعدم من كلام الفلاسفة، ومفردات لغة العرب، وشواهد التاريخ ما يبرر به هذا القرار، فالمستحيل غير موجود.
دشن إذا ولد حرمة سنة الاعتزال السياسي، ليبقى السؤال مطروحا: من سيتبع تلك السنة، ويبقيها حية ؟ أم أنها ستظل حالة فردية غير قابلة للتعميم؟.