الملاحدة الجدد بين الجهل والضياع الحلقة (4) / المرابط ولد محمد لخديم

بل حتى في الخلفية الثقافية الهلينية.
        وقد وقفت مدرسة فرانكفورت مليا عند أسطورة أوديسيوس في ملحمة «الأوديسة» كاشفة عن مركزية هذه الرؤية المادية التي سيصطلح عليها هوركايمر، وأدورنو بـ "الأدائية". كما أن هذا النمط في تمثل الذات والوجود نراه يتمظهر في علم الفيزياء

مع جاليليو في رؤيته التحليلية الرياضية للكون، وفلسفيا مع ديكارت في تمييزه بين الفكر والامتداد، وتأسيسه للعقل بوصفه قوة للسيطرة على الطبيعة واستغلالها.
         كما سيتمظهر مجتمعيا في النمط الليبرالي، كنمط يتقصد تأسيس واقع يعامل الذات الإنسانية بوصفها جسدا بالإضافة طبعا إلى الخطاب الحداثي الرأسمالي حيث يلاحظ أن المنظرين للفكرة الرأسمالية سيحرصون على اختزال الدوافع والأشواق والغايات الإنسانية –حتى تلك التي تخرج عن نطاق العلاقة الاقتصادية– إلى رغبات وأشواق جسدية لتؤول إلى محض رغبة اقتصادية!
         وهذا ما رصده (ادخارمور) بدقة حينما ذهب إلى أن التحولات الكمية ارتفاع القدرة الشرائية، استبدال الطاقة البشرية تطور العمل التقني، تطور أنشطة الوقت الحر أنتجت تحولا نوعيا بطيئا تمثل في بروز مشاكل متعلقة بالحياة الخاصة، مشاكل حول الحياة الشخصية المستقلة مست بالأساس الطبقة المتوسطة والعمالية، ويتعلق الأمر بتطوير ظاهرة جديدة داخل الحياة الشخصية، إنها فردنة الوجود الإنساني.
       إن خاصية الثقافة الجماهيرية تتمثل في كونها ستوفر للفئات الاجتماعية الصاعدة (طبقة متوسطة)، شباب، نساء، صورا إدراكية وقيما ونماذج سلوك جديدة أبطالها: الشخصيات السينمائية، ونجوم الموضة، ومقولاتها: المغامرة، والحرية الفردية، وغاياتها: الحياة والسعادة، والمتعة ...الخ).
         ويمكن تلخيص ما ذهب إليه (إدخارمور) إلى أن الثقافة الجماهيرية أو السوق الثقافية الكونية هي إيديولوجيا تقوم على إضفاء الطابع الكوني على قيم وأنماط عيش وأساليب إنتاج ونماذج سلوكية وتصورات عن العالم والأشياء ذات طابع محلى منغرسة في بيئات تاريخية واجتماعية خاصة، وتحويلها إلى كيانات لا تاريخية.
         (لكن العقل الفلسفي الغربي عندما يستشعر أحيانا اختلال هذه الأولوية المطلقة التي يعطيها في المنظور الاقتصادي في فهم الإنسان وتحديد حاجاته؛ لأنه يحس أن ثمة دوافع وأشواق وقيما إنسانية تنفلت من إطار رؤيته المادية القاصرة، دوافع وأشواق تعلو القيمة المادية وتجاوز نطاقها الكسيح المحكوم بمعايير الحساب النفعي، نجده يحاول أن يغض الطرف عنها أو يتحايل لتجاوزها بمنطق التبرير والتسويق حينا أو بمنطق الاختزال بل والتحريف حينا أخرى(7).
        ليس الإنسان مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود، بل حتى على مستوى وجوده الفردي يحرص على أن يجعل له معنى ودلالة ولا يكتفي بمجرد عيشه.
      ويختم الكاتب الطيب بوعزة المغربي الجنسية مقاله المتميز بالقول: إن إنتاج معنى للوجود حاجة محايثة لكينونة الإنسان ولا يمكن تجاهلها. وهذا ما أدركه بعض ناقدي العقلانية الغربية واستشعروا الحاجة إلى اعتباره عند تحليلهم للوضعية الإنسانية.
        معتقدا أن استثمار النيوليبرالي المعاصر روبير نوزيك للفلسفة الكانطية، ووقوفه في كتابه "الفوضى، الدولة واليوتوبيا" (Anarchy, State and Utopia)، عند وظيفة المعنى في حياة الكائن الإنساني، هو في تقديره ذو دلالة كبيرة إذ هو دليل حسب اعتقاده على اضطرار المقاربة الأدائية المادية إلى توسيع رؤيتها إلى خارج السياج المادي، وان كان ذلك لم يثمر عندها أي تبديل لنمط رؤيتها لماهية الإنسان بسبب عدم انتباهها إلى منطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية(8).
        إذا اعتمدنا رؤية روبير نوزيك هذه فإن المقارنة الأدائية المادية ترى أنه في الوقت الذي تشعر فيه بضرورة توسيع رؤيتها إلى خارج السياج المادي، فإنها مازالت مقيدة بمنطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية.
واقع العقل:
       إن هذا المنطلق ناتج من أن الإنسان قد قطع هذه المسافة الطويلة من الحياة ومن عمر الزمان وهو يعني أكثر ما يعني نفسه بنتاج العقل وبنتاج التفكير، دون أن يعني نفسه بواقع العقل وبواقع التفكير.
        إن جميع المحاولات(التي قام بها بنو البشر في القديم والحديث لمحاولة إدراك واقع العقل قد باءت بالفشل وسبب إخفاقهم وعدم اهتدائهم حتى الآن، إلى واقع التفكير، وإلى طريقة التفكير، هو البحث في التفكير قبل البحث في واقع العقل ولا يمكن الاهتداء إلى واقع التفكير إلا بعد معرفة واقع العقل معرفة يقينية، لأن التفكير هو ثمرة العقل، والعلوم والفنون والأدب والفلسفة، والفقه واللغة وسائر صنوف الثقافة، إنما هي ثمرة التفكير. لذلك فإنه لابد من معرفة واقع العقل أولا معرفة يقينية بشكل جازم ثم بعد ذلك يمكن معرفة واقع التفكير ويمكن معرفة الطريقة المستقيمة للتفكير، فجميع المحاولات التي قام بها الأقدمون والمحدثون لا يوجد فيها ما يستحق الذكر ولا ما يرتفع إلى مستوى النظر سوى محاولة علماء الشيوعية، فإن تعريفهم وحده هو الذي يستحق الذكر ويمكن أن يرتفع إلى مستوى النظر لأنها كانت محاولة جدية لم يفسدها عليهم إلا إصرارهم الخاطئ على إنكار أن لهذا الوجود خالقا، ولولا هذا الإصرار لتوصلوا إلى إدراك واقع العقل إدراكا حقيقيا. فهم بدئوا البحث في الواقع والفكر فقالوا هل الفكر وجد قبل الواقع؟ أم الواقع قبل الفكر؟ واستقر رأيهم النهائي على أن الواقع وجد قبل الفكر. وهذا فهم صحيح ومعناه أن العقل والتفكير أو الإدراك هو نقل الإحساس بالواقع بواسطة الحواس ـ إلى الدماغ، ووجود معلومات سابقة تفسر بواسطتها هذا الواقع بمعنى أنه لابد من وجود أربعة أشياء حتى تتم العملية العقلية ـ أي حتى يوجد العقل أو الفكر. إذ لابد من وجود واقع وحس ودماغ صالح ومعلومات سابقة، والعقل موجود عند الإنسان فقط، بينما توجد الغرائز والحاجات العضوية عند الإنسان وعند الحيوان، وإن إحساساتها موجودة عند الإنسان وعند الحيوان، وكذلك استرجاع هذه  الإحساسات، ولكن ذلك كله إنما هو تمييز غريزي للأشياء، ولا تعتبر عقلا ولا إدراكا ولا فكرا ولا تفكيرا، فالعقل يحتاج إلى وجود خاصية ربط المعلومات.
        وهذه ليست موجودة....يتواصل...

3. يونيو 2015 - 8:25

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا