من المعلوم أن المعارضة تكتسي أهميتها من خلال محاولة النهوض بالعملية السياسية وحمايتها من الشطط ،بمتابعتها المتواصلة لآلية عمل المؤسسات الدستورية من أجل تقويم وتنظيم الحراك السياسي وجعله على جادة الصواب دائما .
فالمعارضة ينبغي أن تكون -كما هي- مؤسسة ذات أهمية كبرى في كل الدول ،
وهي طبعا مظهر هام وصحي من مظاهر التعددية السياسية، بالإضافة إلى كونها رقيب على ممارسة السلطة لصلاحياتها الدستورية والقانونية .. فالمعارضة إذا ضرورة سياسية ضمن النسق السياسي أيا كانت طبيعته.
ودائما تحرص الأنظمة السياسية المتطورة على تكريس دور المعارضة وتطويره ؛ لكونه يشكل دعامة أساسية لحماية النظام السياسي من الاعوجاج والنكوص المؤدي إلى السقوط.
ومن هنا يتضح أن دور المعارضة إلى جانب الحكومة هو دور تكاملي ؛فهو لا يعني تعويق الحراك السياسي ولا ينبغي أن يهدف إلى إسقاط الحكومات ؛ بل ينبغي أن يتلخص في ديمومة مراقبة صناع القرار السياسي ومدى نجاحهم أو إخفاقهم ، وتقويم القرارات الخاطئة الصادرة منهم إن وجدت.
ومهما كانت طبيعة الظروف السياسية قاسية ،ومهما كانت أرضيتها صلبة وشائكة ؛فإن طارقي هذا الباب ؛عليهم أن يمتازوا بطول النفس والتجلد والصمود ،وتحمل المشاق في سبيل الآخر، فالمعترك السياسي ليس بالأمر الذي يبحث فيه دائما عن عاجل الثمار ؛ أو بالذي تغلب فيه المصلحة الفردية على المصلحة العامة ، فلو افترضنا جدلا أن الدواعي والأسباب التي أدت بشخص ما أن يناضل وينافح في صف معارضة أو موالاة ؛ من أجل أفكار ومبادئ لا تزال قائمة ،فأي مبرر للتراجع والاعتزال وترك الآخر يكتوي بجحيم الموجود ..؟
أو أن البواعث والأسباب التي جعلت أيا كان يقف في صف المعارضة مثلا ؛زالت أو تراجعت حدتها؛ فم المانع من ذكر ذلك أو الإشادة به ؛والاعتراف ؛ذاك الاعتراف الذي يعد تاج التميز عند الأشراف..؟
إن وجود المعارضة في بلادنا كان له الدور البارز في التحسين من أداء الحكومة وتحقيق مكاسب سياسية هامة؛أفضت بنا إلى نضج ووعي سياسيين كبيرين ؛صاحبهما انفتاح كبير وحرية في التعبير؛ تصدرنا بهما الأمة العربية في مجال حرية التعبير، واعتلت الدولة بذلك العرش الدبلوماسي الإفريقي ، وتم اختيار دبلوماسي موريتاني في الفترة الأخيرة لتمثيل الأمين العام للأمم المتحدة في اليمن ، وكذا اختيار الوزير سيدي ولد التاه على رأس البنك العربي للتنمية ، وهناك أنباء تتحدث عن اختيار المفتش العام للدولة نائبا للأمين العام لجامعة الدول العربية ؛وهل يأتي كل هذا من فراغ ؟ أم أنها أشياء تحدث من تلقاء نفسها ؟ .. !
ألا تضيف هذه الثقة الدولية سمعة جيدة للبلاد؟ ؛وتعطيها رونقا واحتراما عند كل الدول؟.
إن ماحدث ماكان ليتحقق لولا الإصرار الكبير للحكومة ؛وتفاعلها وإن ضمنيا مع ماهو مشروع من مطالب المعارضة ، والذي كان له أثره في توجه الحكومة نحو ماهو إيجابي ..
لا ينبغي لأحد أن ينكر دور المعارضة الريادي في الأنظمة الديمقراطية ؛كما لا ينبغي لآخر أن يتجاهل دور الحكومة وإنجازاتها .
ومن الملاحظ في بلادنا مع الأسف الشديد أن المعارض يبالغ في معارضته والموالي يبالغ في موالاته ،فالمعارضة ملائكة إذا كان المتحدث معارضا والموالاة شياطين ؛والعكس قائم .
إن علينا جميعا أن ندرك أن الطرح المتزن ؛الذي يعترف بما يستحق الاعتراف وينصف بالذكر مايستوجب الإنصاف ، ويشجب ما يدعو إلى الشجب ويستنكر ما يدعو إلى الاستنكار ، لهو أبقى من عيب الآخر وإقصائه وتجاهله وإنكار مجهوداته .
إن اعتزال الشيخ السياسي المفكر للمعترك السياسي ؛ ليعد هزيمة للمعارضة ؛التي كان إلى عهد قريب يقف في صفها وينافح ..وبفقده فقدت قلما سيالا ومفكرا عميقا ، وإن كان البعض ينظر إلى الحالة هذه على أنها أكثر من صحية ، وأنها تعد سابقة في عالمنا السياسي وأنها ستفتح المجال أمام الشباب كي يظهر ولو في حزب الرجل على الأقل.
إن هذا الاعتزال ليعد انتصارا للموالاة ونجاحا للحكومة التي دأب الشيخ المعتزل على انتقادها والتهويل في ذلك .. إن هذا الاعتزال لاينجو من تفسير يفضي إلى أن المعارضة لم تعد متماسكة عند الرجل بالمستوى الذي يسمح ببقائه في صفها ،أو أن الحكومة نجحت بشكل أو بآخر يقزم جهود الرجل السياسية الفكرية ويجفف منابعه الكلامية..
علينا أن ندرك أن الهدف من السياسة أسمى وأن نسعى إلى جعلها تدبيرا ؛يقتضي حصول المصلحة العامة ويوفر الصيانة لحقوق الأفراد والجماعات بالشكل الأمثل .