وهذه ليست موجودة إلا عند الإنسان، وخاصية الربط هذه إنما تربط المعلومات السابقة لدى الإنسان بما يقع عليه حسه من واقع، ومن هنا كان لابد من وجود المعلومات السابقة عن الواقع عند الإنسان الأول (9).
هذه الطريقة العقلية التي أقرها العلم الحديث لم يستفد منها
نتيجة لمنطلقه الخاطئ الذي ينكر أن لهذا العالم خالقا خلقه من عدم.
وانطلاقا من هذا المنطلق الكمي الذي لا يؤمن بخالق هذا الوجود المفطور فإننا نجدهم حين حاولوا ربط الواقع بالدماغ للوصول إلى الفكر أي الإيجاد التفكير ضلوا الطريق، فجعلوا الربط بينهما هو انعكاس هذا الواقع على الدماغ فخرجوا بالنتيجة الخطأ في معرفة العقل، ولذلك عرفوا العقل تعريفا خاطئا. وسبب ذلك هو إصرارهم على إنكار أن للوجود خالقا خلقه من عدم. لأنهم لو قالوا إن المعرفة تسبق الفكر فإنهم يقفون أمام حقيقة واقعة، وهي أنه من أين جاء الفكر قبل وجود الواقع؟ فلا بد أن يكون قد جاء من غير الواقع. وبالتالي من أين جاء الفكر للإنسان الأول ؟ لابد أنه جاءه من غيره ومن غير الواقع فيكون الإنسان الأول والواقع، قد أوجدهما من أعطى الإنسان الأول المعرفة، وهذا خلاف ما لديهم من معرفة جازمة بأن العالم أزلي، ولذلك قالوا إن انعكاس الواقع على الدماغ هو العقل، فهو الذي أوجد الفكر، وهو الذي وجد به التفكير ولكن يبقى عنصر ضروري وهو المعرفة(10).
لقد تهربوا من ضرورة إيجاد المعرفة بإيجاد فروض، من أن الإنسان الأول قد جرب الواقع فوصل إلى المعرفة ثم كانت هذه التجارب للواقع تساعده على تجارب أخرى للواقع، وأعطوا لذالك أمثلة:
بأن الإنسان الأول قد اصطدم بالأشياء فانعكست عليه فصار بالحس يعرف أن هذه الثمرة تؤكل وهذه لا تؤكل، وصار يعرف أن هذا الحيوان يؤذيه فيتجنبه وهذا لا يؤذيه فيستخدمه ويركبه، و صار يعرف من الحس والتجربة أن الخشب يطفو على الماء فصار يستعمله لقطع البحار والأنهار وصار يعرف أن النوم في الكهف يقيه المطر والبرد والوحوش المفترسة فاتخذ المأوى...
وهكذا توصل الإنسان الأول بالحس إلى إصدار حكمه على الأشياء والتصرف تجاهها حسب هذا الحكم أي حسب هذا الفكر، وهذا يدل على أن الفكر هو نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحس دون الحاجة إلى وجود معلومات سابقة.
والجواب على هذا القول: هو أن ما كان عليه الإنسان الأول فمجهول وغائب وما نريده هو الفكر والتفكير الذي يحصل عند الإنسان الحالي، فلا يقاس المعلوم على المجهول ولا الحاضر على الغائب وإنما العكس هو الصحيح فيقاس المجهول على المعلوم والغائب على الحاضر، فلا يصح أن نقيس الإنسان المعلوم الذي أمامنا، على الإنسان الأول الغائب والمجهول، لنعرف من ذلك معنى الفكر عند الإنسان الحالي، وإنما نقيس الإنسان الأول على الإنسان الحالي فنعرف، من معرفة الفكر والإدراك عند الإنسان الحالي، الفكر والإدراك عند الإنسان الأول، ولهذا كان من الخطأ إيراد هذا القول ثم إن ما يرويه التاريخ عن الإنسان الأول أو كما يقولون الإنسان في العصر الحجري هو أنه كان يبحث عن طعامه فيستعمل الأدوات الحجرية لقطف الثمار في الغابات وصيد الأسماك ودفع أذى الوحوش المفترسة وهذا إذا صح فإنه شيء يتعلق بإشباع الغرائز ولا يتعلق بالفكر أي يتعلق بالإدراك الشعوري، أي التميز الغريزي ولا يتعلق بالإدراك الفعلي(11).
والقائلون بالتفكير المادي يستدلون على ذلك بأنه قد يحصل أن يعطي شخص آلة معقدة وليست لديه معلومات سابقة عنها ويطلب منه حلها وتركيبها فيأخذها الشخص ويحاول إجراء تجارب متعددة عليها فيصل من هذه التجارب إلى حلها ثم إلى تركيبها.
فهو وصل إلى فكر دون حاجة إلى معلومات سابقة والجواب على ذلك هو: أن هذا الشخص لديه معلومات متعددة. فأخذ بتجاربه المتعددة يربط المعلومات التي لديه بالواقع الذي بين يديه وبالمعلومات مع بعضها حتى توصل إلى إيجاد معلومات يفسر بواسطتها حل الآلة وتركيبها، وبهذه المعلومات التي توصل إليها توصل إلى الفكر. فهذا لا يؤتي به مثالا. وإنما المثال الذي يؤتي به هو الطفل الذي لا توجد لديه معلومات إطلاقا، أو الرجل الذي ليس لديه معلومات يمكن أن يستعين بها على إيجاد معلومات يفسر بها الواقع، كأن تأتي بأعرابي وتدخله مخبرا وتتركه يجرب، فهذا ليس لديه معلومات ولذلك لا يصل إلى فكر...
وعليه فالدماغ ليس محل الفكر، والحاصل أن الحواس تنقل صورة عن الواقع المادي إلى الدماغ، وهذه الصورة تنبع الحاسة التي نقلت الواقع، فإن كانت بصرا نقلت صورة الجسم، وإن كانت سمعا نقلت صورة صوته، وإن كانت شما نقلت صورة رائحته، وهكذا فيرتسم الواقع كما نقل في الدماغ، أي حسب الصورة التي نقلت، وبذلك يتم الإحساس بالواقع فقط، ولا ينشأ عن ذلك التفكير بل تميز غريزي فقط، من حيث كونه يشبع أو لا يشبع، يؤلم أو لا يؤلم، يفرح أو لا يفرح، يلذ، أولا يلذ ولا يحصل أكثر من ذلك، فإن كانت هناك معلومات سابقة ربطتها قوة الربط الدماغية بالواقع المحسوس الذي ارتسم في الدماغ، وعندئذ تتم العملية الفكرية، وينتج إدراك الشيء، ومعرفة ما هو، وإلا بقي عند حد الإحساس أو عند حد التميز الغريزي فقط.. إذن لابد من وجود الواقع المحسوس، والمعلومات السابقة، كما لابد من وجود الدماغ والحواس(12).
التفكير السليم:,,,يتواصل...