كثيرة هي الكلمات والمصطلحات التي تآمر عليها أطر ووجهاء هذه البلاد فأفرغوها من محتواها ومن مدلولها الأصلي، وحولوها من كلمات حسنة السمعة إلى كلمات سيئة السمعة والصيت. إنها كلمات كانت في الأصل تنمي روح الإيجابية في النفوس، وكانت تبعث الفرح والسعادة عند سماعها،
ولكنها أصبحت في بلادنا، وعلى العكس من بقية دول العالم، تزرع الإحباط في النفوس، وتتسبب في التعاسة والاكتئاب لكل من يسمعها.
ومن بين الكلمات التي تم التآمر عليها من طرف أطر ووجهاء هذه البلاد تأتي كلمة "مبادرة" في المقدمة، فهذه الكلمة قد هبط بها أطر ووجهاء هذه البلاد إلى القاع الأسفل من السلبية والانحطاط، وذلك رغم أنها كانت ولا تزال تتربع على قمة الإيجابية والإبداع عند بقية شعوب ودول العالم.
لقد أصبحت كلمة "مبادرة" في بلادنا تعني شيئا آخر غير الذي تعنيه في بقية بلدان العالم، ففي كل بلدان العالم فإن لهذه الكلمة شحنة من الإيجابية والإبداع، أما في بلادنا فإنها قد شحنت بشيء كثير من السلبية ومن التقاليد البالية.
دعونا نتوقف قليلا مع معاني ودلالات هذه الكلمة الرائعة، وذلك من قبل أن يتم تحريفها وتشويهها من طرف أطر ووجهاء هذه البلاد.
ففي "لسان العرب": بَدَرْتُ إِلى الشيء أَبْدُرُ بُدُوراً أَسْرَعْتُ، وكذلك بادَرْتُ إِليه، وتَبادَرَ القومُ أَسرعوا، وابْتَدَروا السلاحَ تَبادَرُوا إِلى أَخذه.
وفي "قاموس المعاني" فإن المبادرة هي "سبْق إلى اقتراح أمرٍ أو تحقيقه "، وهي في الحرب: "أن يسبق قائدُ جيش قائدَ جيش العدوّ إلى خطَّة حربيَّة تمكِّنه من الانتصار عليه".
ويعرف الدكتور محمد عبد الغني حسن هلال في كتابه "كن مبادرا ..وأبدأ العمل" بأن المبادرة هي: "الإسراع إلى فعل شيء مفيد بهدف التغيير".
ويرى عالم الاقتصاد "جوزف شومبيتر" (1883-1950) أن روح المبادرة هي بمثابة قوة "تدمير خلاقة"، أي تدمير الطرق الراسخة للقيام بالأعمال، واستحداث طرق جديدة أفضل للقيام بتلك الأعمال.
وبالعودة إلى ما يحدث في بلادنا فسنجد بأن ما يتم الإعلان عنه من مبادرات فهو بدلا من أن يكون قوة تدمير خلاقة فقد أصبح قوة إعادة بناء خلاقة لكل تقاليدنا البالية في مجال التصفيق والتطبيل والتملق.
وإذا ما عدنا إلى تعريف الدكتور محمد عبد الغني حسن هلال من أن المبادرة هي "الإسراع إلى فعل شيء مفيد بهدف التغيير"، فبالله عليكم فهل هناك أي شيء مفيد في هذا السيل العارم من المبادرات الذي ظهر أخيرا مع الزيارات الرئيس للولايات الداخلية؟ وإذا كانت المبادرة هي الإسراع إلى فعل شيء مفيد يهدف إلى التغيير، فهل المبادرات عندنا تعجل بالتغيير أم أنها تعيقه؟ وهل هذه المبادرات تعزز من قيم المواطنة أم أنها تعزز من الانتماء للقبيلة؟
لقد شوه الأطر والوجهاء هذه الكلمة، وأساؤوا إليها بمبادراتهم السخيفة التي أعادتنا سنين عديدة إلى الوراء . إننا اليوم بحاجة لإعادة الاعتبار لهذه الكلمة، وإننا بحاجة إلى مبادرات نوعية تعيد إلى كلمة المبادرة شيئا من ألقها وأناقتها المفقودة.
وفي اعتقادي فإن أهم المبادرات التي علينا أن نبتدعها الآن من أجل إعادة الاعتبار لكلمة المبادرة هو أن يعلن عدد من أطر إحدى المدن أو القرى التي سيزورها الرئيس عن مبادرة تطالب الرئيس بأن لا يزور قريتهم أو مدينتهم، ما دامت زياراته ستستمر على هذا الشكل الذي شاهدناه، والذي لم يجلب أي منفعة للمدن والقرى المزورة. إن فعلا من هذا النوع قد يشكل خروجا على مألوف المبادرات عندنا، وبالتالي فإنه يستحق أن يسمى بالمبادرة.
وللخروج عن المألوف، وبحثا عن أفكار جديدة فربما يكون من المهم أيضا أن تتأسس مبادرة جديدة تُطالب الرئيس بأن يتنازل عما تبقى من مأموريته الثانية بدلا من هذه المبادرات التي تلوح في الأفق، والتي تطالب الرئيس بأن يترشح لمأمورية ثالثة أو رابعة أو خامسة.
وإذا ما أصر الأطر والوجهاء في هذا البلاد على أن يستمروا في تملقهم وفي تطبيلهم للرئيس، فإنه قد يكون من حقنا أن نطالبهم بأن يبحثوا عن كلمة أخرى غير كلمة مبادرة ليجعلوا منها عنوانا لتطبيلهم ولتصفيقهم ولتملقهم للرئيس.
إن على الأطر والوجهاء في هذه البلاد أن يتوقفوا ـ وبشكل فوري ـ عن تشويه كلمة مبادرة، وعليهم أن ينحتوا أو يشتقوا مصطلحا جديدا من كلمات: التصفيق والتطبيل والتملق والنفاق للتعبير عما يقومون به من أعمال وأفعال. فيمكنهم مثلا أن يستخدموا: "لحلحلة" أطر المدينة كذا المرحبة بزيارة الرئيس، أو "تملق" بني فلان للمطالبة بترشح الرئيس لمأمورية ثالثة، وهكذا.
حفظ الله موريتانيا..