من الأخطاء الشائعة: لا زال الأمر مستمرا / محمد يحيى بن محمد بن احريمو

من الأخطاء الشائعة في لغة الصحافة اليوم قولهم : " ولا زال الأمر مستمرا على هذه الحالة" ونحو ذلك مما يكون فيه ماضي " زال " منفيا بحرف " لا". ذلك أن " لا " مخصصة لنفي المضارع ولا تنفي الماضي إلا في حالة ما إذا تكرر نحو قوله تعلى : ( فلا صدق ولا صلى ) أو كان في  سياق

 الدعاء نحو قول ذي الرمة:
ألا يسْلَمِي يا دار مَيٍّ على البِلَى = ولا زال مُنهلا بِجَرْعائِك القَطْرُ !
أو سياق القسم مثل قول الشاعر :
حسبُ المحبّينَ في الدُّنيا عذابُهمُ = تاللهِ لا عذّبتهمْ بعدها سقرُ !
وفيما عدى هذه الثلاثة  فإن الماضيَّ إنما ينفى بحرف " ما " مثل قوله تعلى : (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ   ) وهذا معروف في العربية مشتهر في كتب النحو والإعراب، وليس هو خاصا ب" زال" بل في جميع الأفعال الماضية  .
فالصواب أن نقول " وما زال الأمر مستمرا" .
ي شهر فبراير الماضي طرح أحد الأساتذة سؤالا يتعلق بالموضوع، فأجبته ما ذكُِرَ أعلاه - من باب لازِم الفائدة طبعا - ولكن تساءلت في نفسي ما النكتة من عدولهم عن نفي الماضي بلا ولما ذا قصروه على  " ما " إلا في حالة التكرار؟. 
وقد خطر ببالي  ما يصلُحُ جوابا على هذا السؤال ، وهو  أنهم إنما فعلوا ذلك التزاما بوظيفة كل من الحرفين " ما " و"لا " في دلالتها على النفي. ذلك  أن " لا " موضوعة لنفي الاستقبال أصالة،  ولنفي الحال أحيانا  فلذلك قصروها على نفي  الفعل المضارع الذي هو موضوع أصلا للحال والاستقبال. بخلاف "  ما" فهي  لنفي الفعل في الماضي أصالة ويُلحق به الحال أحيانا  فلذلك كانت أنسب لنفي الماضي دون " لا " فإذا جاء  الماضي بمعنى الاستقبال صار له حكم المضارع، ولهذا جاز دخولها على الفعل الماضي في سياق الدعاء والقسم لتعلقهما بالمستقبل فهما بمنزلة المضارع ..
ثم وجدت أن بعضهم قد أشار إلى هذا الجواب ومن هؤلاء الإمام الزجاجي في " معاني الحروف" حيث قال: " لا: نفي للمستقبل والحال ، وقبيحٌ دخولها على الماضي ، لئلا تشبه الدّعاء ؛ ألا ترى أنك لو قلت: لا قام زيد ، جَرَتْ كأنك دعوتَ عليه " (معاني الحروف القرآن وإعرابه: ص 8 ).  ويمكن فهم هذا التعليل الذي أشرنا إليه  من كلام ابن هشام في المغني وغيره من النحاة من باب " دلالة الإيماء" كما يقول الأصوليون ، فهو واضح من كلامهم  وإن لم يصرحوا به لأنه في سياق التعليم يكثر الاقتصار على القواعد والأوجه دون إشارة إلى التعليل، وإن كان للتعليل والتوجيه حظ عظيم في النحو العربي .
وبالرجوع إلى الحالات التي يجوز فيها دخول " لا" على الماضي نجد أنها متمحضةٌ للاستقبال، وذلك أنها تدخل عليه إن قصد به الدعاء،  والدعاء متعلق - طبعا - بالمستقل مثل البيت المتقدم :
ألا ياسلمي يادار مي على البلى = ولا زال منهلا بجرعائك القطر .
وكذلك القسم فهو متعلق بالمستقبل إذ لا يقع الماضي بعد " لا " إلا في القسم على أمر لم يقع بعدُ مثل : " والله لا دخلت دار زيد " بمعنى لن أدخلها. ولا يكون في لقسم على الماضي بل تقول حينئذ : " والله ما دخلت دار زيد " .
وأما في نحو قوله تعلى : (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) فقد جعلوا التكرار قرينة على إرادة الماضي فصارت " لا " بمعنى " لم " .
وما خرج عن هذه القاعدة مما دخلت فيه لا على الماضي فهو من باب الشاذ  الذي لا يقاس عليه كما قال جمهور النحاة .ونقل البغدادي في " خزانة الأدب " عن ابن يعيش وابن الشجري أنهما مالا إلى اعتباره من القليل النادر لا من الشاذ واستبعد هو ذلك لمخالفته لرأي الجمهور. ومال أبو حيان أيضا إلى رأي ابن يعيش عند تفسيره لآية : ( فلا صدق ولا صلى) في البحر المحيط .
وقد لاحظت أن جميع الشواهد  الشاذة وقع فيها الماضي المَنفي بلا  في سياق الاستفهام، فلعل العرب إنما ارتكبوا ذلك  اعتمادا على قرينة السياق وهي تقدم الاستفهام المؤذن بأن المقصود الماضي لا  الدعاء ولا الاستقبال.  وهذه الشواهد هي قول طرفة :

وأيُّ خَمِيسٍ ، لا أتَانَا نِهَابُهُ؟  = وأسْيَافُنَا مِنْ كَبْشِهِ تَقطرُ الدِّمَا
وقول الراجز :
إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمّا = وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا؟
وقول شهاب بن العيف:
  ..................        =  وكان في جاراته لا عهدَ له
فأي أمرٍ سيء لافعله ؟
فلعل سياق الاستفهام يختص بهذا – على وجه الندرة - لأنه يعتبر  قرينة صارفة عن توهُّم الدعاء،و ولم أر من نبه على ذلك مع أنه متجهٌ ويؤيده أن ما وقفنا عليه من الشواهد التي اعتبروها شاذة كلها من قبيل الاستفهام والله تعلى أعلم.
ومعروف أن العرب يجرون الاستفهام  مجرى   الدعاء والنهي  في بعض الأحكام، فلعل هذا مما يستأنسُ به على ما ذكرنا، وعليه يكون وقوعه في سياق الاستفهام  من النادر التي تسامحوا فيه للقرينة ولا يجوز خارج ذلك السياق والعلم عند الله تعلى .
والغريب أن هذا الخطأ الواقع في لغة الصحافة اليوم كثير الاستعمال في " لغة الفقهاء" منذ القدم فنجده في كلام الإمام عبد الله بن وهب في جواب  له في المستخرجة يقول فيه : "  وإن كان الأب يجري لها النفقة ( لا زال يتفقدها ) ويرسل إليها بما يصلحها حتى تومن عليها الضيعة ، فلا يجوز لأحد : أمام ولا غيره ، أن يَفْتات على أبيها بإنكاحها إلا بإذنه ورضاه" ( البيان والتحصيل 5\31) . وهو كثير كذلك في شروح مختصر خليل وغيرها من كتب الفقه .
ومعروف أن الفقهاء أيضا كانوا يتساهلون في بعض الألفاظ والأساليب  التي يتحفظُّ عليها النحاة، فنفس المشكلة التي بين اللغويين والصحافة اليوم كانت بين الفقهاء والنحاة، وأحيانا بين المحدثين والنحاة كذلك. وفي هذا ألف الإمام اللغوي  عبد الله بن بَرِّي (586هـ) كتابه: " غلط الضعفاء من الفقهاء" فتتبع فيه كثيرا مما رأى أن الفقهاء لحنوا فيه وأجروه على غير المعهود من سَنن العرب في كلامها، ولم يخلُ في كلامه من تشدد. وبالمقابل ألف ابن العربي المعافري المالكي كتابا في التشنيع على النحاة ونسبهم إلى التكلف والجمود في بعض تأويلاتهم ومذاهبهم .
والحقيقة أن موضوع الأخطاء الشائعة يخرج الناس فيه كثيرا عن سبيل الجادة إلى التشدد والتساهل ، والعبرة في ذلك بما يحترم قواعد العربية ويؤثر ما سمع عن العرب على المترجم ،ويراعي حاجيات  التطور الطبيعي للغة .  

10. يونيو 2015 - 9:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا