أحيت قناة "شنقيط الفضائية" مساء خميس الـ07 من شهر مايو المنصرم ندوة شبيهة بندوات "الحوار الشامل" التي نظمتها قبل فترة إذاعة موريتانيا و بثتها القناة نفسها بانتظام. و تضمنت هذه الندوة العلمية و السياسية الرفيعة حول "التحول الديمقراطي في موريتانيا" عروضا قيمة،
كثيفة المحتوى، قوية السبك و الطرح، عميقة سبر كل جوانب موضوعها العام البالغ الأهمية و شديد الحساسية في ظرف تعيش فيه البلاد على وقع صحوة سياسية عارمة لكنها غوغائية و تفتقر إلى النضج و التأطير و التوجيه.
و لما أن العروض الأربعة - التي قدمها رئيسا حزبين من المعارضة و الموالاة و أكاديميين لهما رأيهما السياسي و ولاؤهما الذي و إن لم يكن معلنا فعلى الأقل غير خافي - كانت أقرب في مجملها إلى الجهد النظري السياسي و الأكاديمي العلمي من زوايا و خلفيات مختلفة من دون استنتاجات تفضي إلى أي استخلاص قابل للإسقاط على الواقع حتى يمكن تطبيقه على ميدان سياسي يفتقر إلى الوعي فينعكس نشاطا صحيا على الحراك الإيجابي - إلا أنها ظلت ندوة في مجملها محاطة بسياج شديد الحضور من الموقفية السياسية المتنافرة و المتعارضة هدأها فقط و اصبغ عليها حلة من المرونة ذلك المستوى العلمي و الأكاديمي في التناول و جزالة و رصانة لغة تبليغ رفيعة مستوى المصطلح؛ كما أن الحضور لم يكن بأقل نوعية و تمثيلية للطيفين السياسي و المدني (النقابي – الحقوقي) و الإعلامي و تشكل في مجمله من:
- ممثلين عن بعض أهم الأحزاب الناشطة و بمستوى عالي،
- بعض ممثلين عن أكثر النقابات حضورا و أعلاها صوتا،
- آخرين عن أبلغ منظمات المجتمع المدني تسييسا و ولاء،
- أكاديميين معروفين بإطلالاتهم السخية على الجهات المنظمة و الداعية للندوات العلمية و السياسية،
- بعض إعلام خجول لم يبد كبير تعاط مع مجريات الندوة.
بالطبع و مما لا شك فيه فقد كان الغائب الأكبر عن هذه الندوة، كالعادة، الغالبيةُ العظمى من المواطنين المشاهدين الذين لا ريب في أن لغة التعاطي العلمية العالية و مصطلحات فقه السياسة العميقة و الأكاديمية الطافحة – حول موضوع هو بالأحرى جوهر اهتمامها و مادة تناولها إفصاحا و تضمينا - غيبتها جمهورا من خارج الحلبة الضيقة للنقاش و داخل فضاء التلقي الأرحب و أشعرته بعقدة "الدونية" و أذاقته سياط "الاستعلائية" و سطوتها في دائرة "الاستكبار" المعرفي و "الريادة" القسرية و "التدافع" الشديد على منصة الخطابة و أمام الشاشة المبلغة الصورة للعموم، الأمر الذي ساعدت فيه بعض "انتقائية" ما كان لها أن تكون لو لم يصدق أنه "ما بطبع الإعلام لا يتخلف"؛ انتقائية من وحي الإملاءات المهنية ربما دون إرادة إلى ذلك لدى المنعشين الذين أبدوا جدارة مهنية عالية و لياقة حوارية عملية متقنة؛ إملاءات أفصحت عن بعض ضعف في تقسيم الوقت و انكفاء عن عدالة توزيعه على المداخلات المثرية لطيف المتدخلين و المعلقين.
و إنها هي الملاحظات مجتمعة التي نالت إلى حد ما من قيمة الندوة و زجت بها في خانة الندوات "التلميعية"، إن جاز التعبير، من أوجه شتى و سد بعض خواء "العطاء السياسي" و غياب المعالجات الميدانية لمعضلات الوطن الكبرى التي لا تحتاج إلى الكلام بإسهاب أكثر مما تحتاج إلى الالتحام و التبادل مع القواعد الشعبية بشأنها حتى تترسخ مبادئ الحوار القاعدي و تنجلي عقد التباين و الاختلاف و يطفو على سطح الرشاد السياسي إدراك الضرورة القصوى لمكافحة الغبن و الإقصاء من كل نعمة في البلد و ليس أقلها نعمة العمل السياسي المشارك البناء.
و لما أن التحول الديمقراطي في موريتانيا هو الموضوع الرئيسي للندوة فإن الورقات المقدمة كانت كما أسلفنا - على غزارة المادة الكلامية التي ظلت السمة البارزة في أداء المحاضرين - نظرية في كل جوانبها المحددة إلى حد الملل و أكاديمية إلى حد الضجر بحيث أنها لم تلامس تطلعات المشاهدين و لم تخلص إلى استنتاجات منطقية بموضوعية المعالجات التقريبية و المهارة التربوية الإرشادية و المنهجية التوصيلية تعين على صنع المواقف لدى الشعب و تنوير الدروب المؤدية إلى فهم ضرورة ما كان من تصحيح أو تغاضي عن كل الخطى و المسارات خلال كل حلقات التحول الديمقراطي الذي عرفته البلاد.
و لما أن الحضور كان هو كذلك كبيرا و نوعيا إلا أن بعض المتدخلين الذين اختيروا دون سواهم على معايير منها الموضوعي و منها دون ذلك قد أهدروا وقتا ثمينا لم يعوض في ارتجال مداخلات كانت أقرب إلى العروض السابقة منها إلى إثراء حقيقي باتجاه المشاهدين من الشعب. و طبعا لم يفوت السياسيون الفرصة على اختلاف انتماءاتهم و توجهاتهم للنيل من بعضهم و طرح حاد لبعض القضايا الشائكة حيث أغفلها البعض و خفف من تناولها آخرون و إن جرى مجمل التعاطي في إطار مقبول من اللياقة و تجنب للجدل العقيم، و ليس ذلك بالأمر القليل علما بمستوى التشنج السياسي العالي الحاصل و تناقض الواقع السياسي في المشهد العام و على أرض الواقع. فإن اللذين ينفون عن البلد صبغة الديمقراطية مجافون للحقيقة الناصعة حيث أن حرية الرأي التي تحملها التعددية الحزبية المفرطة أمر واقع و حرية الإعلام في غوغائية عارمة تتجلى في ضعف المهنية و غياب المصادرة و كثرة الوسائط البعيدة عن المراقبة في حدود احترام ضوابط حرية التعاطي المهني من جهة و حماية الثوابت الدينية و الدستورية و الأخلاقية و المدنية و الوطنية.
و لما أن مسار البلاد الديمقراطي ما زال يشكو:
- نواقص بنيوية بالغة، و ضعف الأطر الحزبية خطابا و فلسفة و نهجا،
- و خور المجتمع المدني المتزلف في غالبيته،
- و اضطراب الحراك الحقوقي رغم حقيقة و محورية أسباب قيامه،
و أن عقلية المواطن ما زالت مرتبطة بمفاهيم القبلية و الجهوية و الطبقية في بحر من التخلف العارم و غياب السلوك المدني بكل أوجهه في دائرة غياب مفهوم الدولة المزمن، فإن المسافة إلى فهم التراكمات السياسية منذ الاستقلال، في مسار يريد له البعض المتفائل بإفراط أن يكون تحولا ديمقراطيا و استخلاصا للعبر من هذه التراكمات لصنع واقع سليم يجري حوله التبادل و يقوم لأجله العمل، ما زالت المسافة إليه طويلة. و إن وسائل التنقل المنطقي إلى لب هذه التراكمات غير متوفرة عند كل الفاعلين في حقول يفترض أنها نضالية لصالح الشعب و بناء و تنمية و حفظ الكيان.
و عليه فإن العبرة لحصول التحول، المطلوب بإلحاح سعيا إلى تفيء ظلال ديمقراطية تلبي طموحات المواطن المكسور الخاطر و البلد المعتمد الـ"بلادة" نمطا للتسيير و "السيبة" سياجا دون التحول، يكمن كله في ظهور كيانات سياسية و حقوقية و منظمات مدنية تترجم خطابها على أرض الواقع من خلال العمل الميداني و الالتحام العملي بالجماهير المغلوبة على أمرها حتى لا تظل بين مطرقة النظام و سلطته و سندان كل أطياف المعارضة في فوضويتها الخطابية و جمود ديناميكيتها الميدانية و غياب إعلام مسؤول، مستقل، موضوعي، حيادي و مهني يراعي متطلبات و ضوابط المهنة و يلتزم بأخلاقياتها.