عموم رؤية الهلال في ضوء المستجدات العصرية / محمد يحيى بن محمد بن احرَيْمو

يكاد المتتبع لنصوص القرآن والسنة أن يجزم بأن مقتضاها عموم الرؤية وأنه إذا ثبت الهلال في قطر من أقطار الإسلام وجب على سائر المسلمين الصوم برؤيتهم ولو تباعدت البلدان.
فمن ذلك قوله تعلى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)،

 فهذه الآية صريحة في أن الشهر واحد، وأن الأمارات التي نصبت للدلالة عليه موحدة الحكم ، وأن أثرها محددٌ في نفس الأمر ، وليس تابعا لمقارَبات المكلَّفين وما يعُرض لهم من خطأ أو قُصور في ذلك، وإن كانوا معذورين إذ لا كسب لهم في ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا  وسعها . 
ومثل ذلك قوله تعلى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)... وسائر النصوص الواردة في ليلة القدر ويوم عرفة فهي صريحة في أن هذه المواقيت موحدة، وقوله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضانُ فتِّحت أبوابُ الجنة، وغلقت أبواب النّار، وصفِّدت الشياطين) متّفق عليه .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) الحديث ... فالمعهود من مثل هذا من خطابات المواجهة العموم  كما هو مقرر في أصول الفقه فهو لا يختلف عن سائر النصوص العامة، فيقتضي بعمومه وجوب الصوم على من ثبتت لديه رؤية الهلال في أي قطر كانت.
وأكثر علماء الفلك اليوم على عموم الرؤية وهم يبنون ذلك على أن أقصى نقطة في الغرب تجتمع مع نظيرتها في الشرق في جزء من اليوم والليلة، وبالتالي فهم يعتبرون رؤية الهلال في أي مكان من العالم مؤذن بحلول الشهر الجديد على سائر البلدان وإن تعذرت رؤيته في بعضها.
 
وهذا مذهب مالك كما قال خليل : " وعمَّ إن نُقِل بهما عنهما " . وهو أيضا مذهب أحمد بن حنبل والليث بن سعد وأبو حنيفة وأصحابه وقولٌ لبعض الشافعية وجماعة من أهل العلم، وخالفهم ابن عباس رضي الله عنه والشافعي فقالوا: " لأهل كل بلد رؤيتهم".
  وغاية ما احتج به القائلون بخصوص الرؤية حديث كريب المشهور  عن كريب أنه استهل عليه رمضان وهو بالشام فرأى الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فلقي ابن عباس رضي الله عنه فأخبره أنه    رأى الهلال  ليلة الجمعة  ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال :" لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم". رواه مسلم وأصحاب السنن. وقد أجاب عن الشوكاني (نيل الأوطار4-267) بأنه في حكم الموقوف لأن الظاهر أنه أشار إلى حديث  " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وهو من مرويات ابن عباس، فليس هذا إلا فهم من ابن عباس وهو وإن كانت له قيمته لكنه  لا يلزم غيره من المجتهدين      . 
وعلى الجملة فالخلاف الفقهي في المسألة معروف ومشهور، ولكني  أُخْشى أن يكون في العمل بخصوص الرؤية  اليوم اجترارٌ لواقع قديم وإهمالٌ لمقتضيات الواقع المعاصر الذي أصبح فيه العالم " قرية كونية " واحدة وبلغت فيه وسائل الاتصال مبلغا لم يكن يصل إليه الخيال من قبلُ. 
لقد أشار الإمام ابن عبد البر في " التمهيد إلى أن مستندات من قال بأن لأهل كل بلد رؤيتهم تعذر الاتصال وما يترتب على إلزام الصوم برؤية الأمصار المتباينة من حرج ومشقة (التمهيد 14-358)، وهذه العلة منتفية اليوم في عصرنا اليوم فقد طوت وسائل الاتصال المسافات البعيدة وألحقت أقصى المشرق بأقصى المغرب وهذا أمر ضروري لا حاجة لبيانه، والحكم يتبع علته ويدور معها وجودا وعدما .

لقد استفاد المسلمون من التطور الحادث في وسائل الاتصال خلال القرن الثالث عشر فاعتمدوا على نقل رؤية الهلال بواسطة ضرب البارود واستخدام التلغراف وغيرها من الوسائل الحادثة وأفتى علماء ذلك الجيل بضرورة اعتماد تلك الوسائل والأمارات،وممن ألف في ذلك : الشيخ عليش والفقيه المطلع المهدي الوزاني والحافظ محمد الخضر بن مايابى وغيرهم.  فلماذا لا نستفيد نحن اليوم من وسائل التواصل، ونلغي الحدود الوهمية التي أصبحت عائقا دون وحدتنا في أمور الدين والدنيا؟! .
إن من شأن توحيد الرؤية على مستوى العالم الإسلامي أن يجنبنا كثيرا من الإشكالات  الفقهية مثل: اختلاف المناطق المتجاورة والتي لا يفصل بينها غير الحدود الوهمية مثل روصو" الموريتانية و" روصو " السينغالية،  فإن تخلف بعض هذه المدن عن بعض في الصوم مخالفٌ للإجماع. "
إن المنظمات الإسلامية اليوم - رابطة العالم الإسلامي ونظيراتها - مدعوةٌ إلى الأخذ بزمام المبادرة وتقريب وِجهات النظر بين الدول بين المرجعيات العلمية أوّلا، ثم بين دول العامل الإسلامي بعد ذلك، حتى يحسم هذا الخلاف في ضوء المستجدات العلمية ويطبّقَ ذلك على الأرض. فما المانع من أن تكون هناك مؤسسة تمثَّلُ فيها جميع الدول الإسلامية تسعى لمتابعة الهلال والتأكد من ثبوته في جميع الدول ؟! ويمكنها أن تستعين برأي علماء الفلك، ثم تقوم بعد ذلك بإعلان ثبوته وتتوحد الرؤية ويرتفع الخلاف والحرج الواقع اليوم.
وقد روى ابن الماجشون والمدنيون من أصحاب مالك عنه : أن الإمام الأعظم إذا ثبت عنده الهلال فإنه يجب على عامة المسلمين الصيام لأنه حاكم على الجميع، بخلاف غيره من القضاة والأمراء فلا يجب الصيام إلا على من هو في حكمهم (التمهيد لابن عبد البر14-357)م. فما المانع من أن تقوم المنظمات الإسلامية اليوم بهذا الدور الذي كان منوطا بالخليفة في ظل غيابه ؟!
أعتقد أن هذا سيكون أولى من حالة التشرذم المبنية على الحدود السياسية والتي لا يقرها مذهب من المذاهب إلا رواية ابن الماجشون المخالفة لمشهور المذهب .
ليست هذه بالطبع فتوى في الموضوع - إذ لست أهلا لذلك وهو موضوع معقد يحتاجُ فتوى رسمية - ولكنها دعوة للتنبه للموضوع
اللهم بلغنا رمضان ووفقنا لصيامه واجعلنا من عتقائك من النار فيه يارب العالمين وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
 

18. يونيو 2015 - 16:52

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا