كلمة الإصلاح هذه كانت في الأشهر الماضية تكتب لأهل الدنيا بلهجتهم التي تعني أخبار أهل الدنيا وما يخوضون فيه من أحاديث ومشاكل إلا أن أهل الدنيا المسلمين عـندهم ميزة خاصة عن غيرهم .
فقد ذكر القرآن أن أهل الدنيا نوعان كما قال تعالى
(( فمنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقـنا عذاب النار )) .
وهذا النوع الأخير الذي يطلب الحسنات من عمله الدنيوي كما يطلب أن تكون هذه الحسنات سببا لأجره الأخروى لينال بعمله الدنيوي خير الدنيا والآخرة فيتـزحزح بذلك عن النار وهذه هي غاية المسـلم وهنا يقول المولى عز وجل (( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ...)) فهذا النوع وهذا المفهوم أو هذا التفكير من المسلم في عمله الدنيوي هو الذي يجب أن يكون هدفه الأسمى والمؤمل في حياته مهما كان نوع عمله سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا إلى آخره .
فكلمة الإصلاح دائما تكتب حول هذا المعنى لأجل أهل الدنيا المسلمين بغض النظر عن شكلهم ورتبة وظائفهم وأفكارهم ، لأني كمسلم أعلم أن احتياجهم لحسنات أعمالهم في الآخرة ومساواتهم في ذلك الاحـتـياج مثل احتياجهم ومساواتهم لضروريات حياتهم الدنيوية مثل الأكل والشرب والافراغ والاستراحة من ذلك الأكل والشرب ودوران هذه العملية حتى نهاية الأجل .
إذن فعلى المسلم مهما كان موقعه في الدنيا رئيسا أو مرؤوسا فقيرا أو غنيا ناشطا في أي ميدان أو منعزلا في أي مكان أن يلاحظ في عمله ما أرشده الله إليه من جعل عمله صالحا أن يكون ظرفا لهذا الطلب : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
ولذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يدعو بأي دعاء إلا وجعل هذا الدعاء من ضمنه إما أن يستكفي به أو يجعله جزءا من الدعاء .
وبما أن المولى عز وجل أوضح في القرآن أن لرمضان ميزة خاصة وبين النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه هذه الميزة لرمضان فإن كلمة الإصلاح تـنـتهز فرصة ابتداء هلال شهر رمضان لتكتب لنفسها أولا ثم لباقي المسلمين كيف يحاول المسلم أن تكون جميع أعماله مطابقة لما جاء في القرآن وما بينـه النبي صلى الله عليه وسلم في ما جاء في هذا الذكر الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تـنزيل من حكيم حميد .
وصاحب هذا العمل هو وحده الذي يستطيع بدون شك أن يقول بعد عمله هذا ربنا آتـنا ما وعـدتـنا على رسلك ولا تخـزنا يوم القيامة إنك لا تخـلف الميعاد .
ومن ما جاء في القرآن في شأن رمضان أن الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن في شهر رمضان وأن هذا القرآن هو الذي فيه الهداية لكل البشرية يقول تعالى (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبـينات من الهدى والفرقان )) .
ولفظ الناس الذي أطلق هنا بأن القرآن هداية لهم قد أوضح القرآن في أول كلمة من المصحف بعد الفاتحة التي هي بمثابة المقدمة نوع هؤلاء الناس الذي جعل القرآن هداية لهم فقال تعالى : (( ألم ذلك الكتاب لا ريـب فيه هدى للمتقين )) إلى آخر الأوصاف المقروءة في تـلك الآية .
أما المقدمة التي سبقت بداية القرآن وذكر هدايته للمتقين خاصة فقد جاء فيها ملخصا كما نعلم جميعا ما يحدد علاقة المسلم بربه وأنها منحصرة في خصوصية عبادته وحده وخصوصية الاستعانة به وحده أيضا هذا هو المسمى الطريق المستقيم الذي يطلب المسلم دائما في أي ساعة وقف فيها أمام ربه الهداية إليه وفي نفس الوقت أوضحت هذه المقدمة أن هناك بعض الناس مغضوب عليه وضال لا ترجى له الهداية بل على المسلم عندما يطلب الهداية إلى الصراط المستقيم أن يستـثـني من دعائه حالة من أنعم الله عليهم لكنهم بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار ، فـنصيـبهم من الدنيا هو الغضب من الله والضلال عن سلوك الصراط المستقيم .
ومن هنا أود أن أنبه المسلم ولاسيما المسلم الموريتاني أن الطريق المستـقيم الذي نطلب جميعا الهداية إلى سلوكها والتمسك بها قد ورثـناها وفوقها كثير من التراكمات المختـلفة بعضها عقائدي وبعضها ميراث بـيئي يتكون من عادات وتـقاليد ومفاهيم وسلوك بعضه موازي للإسلام يسـيـر بجنبه حتى يخيل للوارث أنه يسيـر على الطريق المستقيم ولكنه في الحقيقة سائر على الطريق الوراثـي التـقـليـدي الذي حذر القرآن من سلـوكه مبـينا أن ذلك السلوك يـبـعده عن سلوك الطريق المستقيم يقول تعالى (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتـبعوه ولا تـتبعوا السبـل فتفرق بكم عن سبـيله )) .
والواضح في هذه الآية أن اسم الإشارة في قوله تعالى (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه )) أن ذلك يعنى طريقا خاصا أما السبل الأخرى التي يمكن أن تـتشابه معه ولو شكـليا فإن الإسلام يحذر من إتباعها ويذكر أنها متعـددة ولكن إتباع أي منها يؤدي إلى الابتـعاد عن سلوك الطريق المستقيم .
فالإسلام لم ينزل الآية التي فيها كمال الدين إلا وفي علمه تعالى أن المسلم لم يبق بعد إنزالها يحتاج إلى زيادة في الدين بل الذي يحتاجه وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو تبـيـين هذا الدين وتفسيره وتوضيح ما يحتاج إلى توضيح ، يقول المولى عز وجل في إكمال الدين (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )) ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم في تبـيـين هذا الدين وتوضيحه (( وأنزلنا إليك الذكر لتـبـين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتـفكرون )) .
ونتيجة كمال هذا الدين وتبيـين الرسول صلى الله عليه وسلم له أن أي مسلم لا يصح ولا يجوز له أن يعـتـقد أو يباشر أي عمل لا يجد نصه في هذا القرآن ولا في توضيح الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك النص ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : أي مردود عليه ولو كان هذا العمل من جنس الدين ولكنه غـير منصوص عليه في القرآن ولا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم .
وبما أن الشيطان المطرود من رحمة الله طلب إرجاء موته إلى يوم القيامة مقابل إضلال بني آدم وصدهم عن سبـيـل الله ، ونظرا إلى أنه يعرف أن بني آدم لا ينجيه يوم القيامة من عذاب الله إلا سلوك الطريق المستقيم لدين الله فقد أقسم هذا الشيطان المطرود من رحمة الله أنه سوف يقعـد فوق هذا الطريق المستـقيم ، وقد أوضح هذا الشيطان اللعين أن الذي سوف يقعـد عليه هو الطريق المستـقيم وليست الطرق التي تـتـفرق عنه يقول تعالى حكاية عن اللعـين أنه قال (( لأقـعدن لهم صراطك المستقيم )) الخ الآية .
وهنا يكمن الخطر الذي ينـتـظر أولئك الذين لم يتحروا سلوك الطريق المستـقيم الذي لا لبس فيه كما قال تعالى (( الذين آمنوا ولم يلـبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهـتدون )) .
ووجود هذا اللبس في الدين هو الذي حذر منه القرآن في عـدة آيات من كتابه العزيز يقول تعالى (( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهـدي من يشاء فلا تذهب نفسك حـسرات إن الله عليم بما يصـنعون )) .
ويقول تعالى (( قل هل أنبـئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )) .
ومعلوم عـند جميع المسلمين أن الدين المستـقيم يتركب من ما يلي :
أولا : عـقيدة صحيحة تـقـر وتعـتـرف بوجود الله الواحد الأحـد الذي لم يـلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد وأن له صفات وصف بها نفسه في القرآن لا يشاركه في معناها الحقيقي كائـنا من كان وإن كان اللفظ العربي يمكن أن يطـلق لفظا مشتركا في الوصف بين الله وبعض من عباده ولكن أي لفظ في اللغة العربية جاء يحمل وصفا يوصف به المولى عـز وجـل ويوصف به غـيره من خـلقه مثل : الرأفة والرحمة...الخ لابد أن يمـر على المصفاة التي أنزلها الله في كتابه العزيز لتـلك الألفاظ وهي قوله تعالى (( ليس كـمثـله شيء وهو السميع البصيـر )) .
ثانيا : العبادات المحددة في القرآن والسنة سواء كانت العبادات الواجبة التي حددت في حديث جبـريل أو العبادات التطوعية من جنس تـلك العبادات والمحددة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لابد من إتباعها كما هي شكلا ومضمونا .
ثالثا : المعاملات سواء كانت هذه المعاملات تعاوضية فيما بين البشر مهما كان نوعه أو لونه أو دينه فسلوك الطريق المستقيم في المعاملات التي لا يشوبها غش ولا خداع وسواء كانت معاملة إرفاق في الحياة وما يتطلب ذلك من نصح وأخلاق مهما كان شكل الطرف الآخر من البشر هذا كله داخل في قوله تعالى (( اليوم أكمـلت لكم دينكم )) .
فلا عـذر لأي مسلم في تجاوز تـلك الحدود التي حـددها المولى عز وجل في كل مناحي هذه الحياة التي أوضح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم بكلامه وسلوكه ما على المسلم أن يسلكه في هذا الصـدد ثم أسمعنا ما قاله المولى عز وجل في قوله تعالى (( قـل إن كنـتم تحبون الله فاتبعوني يحبـبكم الله ويغـفر لكم ذنـوبكم ))
أما بخصوص ما يجب أن نـتـنـبه عليه نحن الموريتانيـين هو أننا ولله الحمد يشملـنا جميعا كلمة المسلمين إلا أن إسلامنا الموروث من أجـدادنا وجـدناه ملفوفا في ثلاثة أثواب : ثوب تركه الاستعمار وثوب وجده عندنا من العادات والتقاليد وثوب من أنواع العبادات الموروثة بجانب أصل العبادات المحفوظة بفضل الله عـز وجـل في هذا القرآن والسنة الصحيحة .
فالمولى عـز وجل بمنه وكرمه لعلمه أن الإنسان يحمل بين جنـبـيه النفس الأمارة بالسوء ، وأن الشيطان يجري منه مجري الدم ولا هم له في هذه الدنيا إلا إضلال بني آدم ـ حفظ الله لنا هذا القرآن وفيه جميع التوجيهات من العـبادات والإخلاص فيها والمعاملات والصدق فيها والتـعايش الاجتماعي وما ينبغي فيه من الأخلاق ، وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم جزاه الله عن أمته خيرا كل هذا .
فـثوب الاستعمار الذي ألبسه لإسلامنا الموروث هو أن هناك دين وهناك دولة مدنية وهما لا يـلتـقيان فصور الاستعمار بينهما برزخا لا يـبـغـيان .
فمن لبس هذا الثوب ولقي الله به فسيجد أمامه قوله تعالى (( ألم يأتكم رسل منكم يتـلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا )) .
أما ثوب العادات والتـقاليد فنحن نعلم جميعا أن تـقاليدنا وعـاداتـنا كانت توزع بـيـنـنا كيف نفعـل العبادات وتعـيـن لكل نوع منا سلوكا عـليه أن يتـبعه في حياته الدينية فـيلزمه ما لا يلزم الآخر ويـباح له ما لا يـباح للآخر وإن كان هذا ليس مقـنـنا بـينـنا إلا أنه متعارف عـندنا فنحن هنا نتجاهـل معنى ألفاظ العموم الواردة في القرآن وفي الحديث التي لا تخص أحدا عن أحـد مثـل قوله تعالى (( فمن يعـمل مثـقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثـقال ذرة شره يراه )) .
أما ثوب العبادات الموازية للإسلام فـكـلنا يعرف أن المسلمين هنا كانوا موزعين على طرق في العبادات ينتهي نسبها دون النبي صلى الله عليه وسلم وعـندها أنواع عباداتها الخاصة بها في شكـلها ونوعها وعـددها فهم وإن كانوا ينسبونها أو يعـتـقدون أنها متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهم ينسبونها إلى ما دونه مع أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من شكـل العبادات ونوعها وعـددها لا يحتاج إلى نسبة دون النبي صلى الله عليه وسلم بل إن قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم : .
وملاك ذلك كـله والجامع له هو قوله تعالى (( اتـبـعوا ما أنـزل إليكم من ربكم ولا تـتـبعوا من دونه أولياء قـلـيـلا ما تـذكـرون )) .
وهذه الأثواب الثلاثة أعلاه ستـكون موضحة بإذن الله في الحلقة الثانية قي كلمة الإصلاح من وحي رمضان .
وما توفقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنـيـب