إن من أكبر المفاهيم وأعظمها وأجلها قدرا هو مفهوم العبادة، وهذا المفهوم أكثر ما نحتاج المطالعة إلي فهمه ومعرفته في الإسلام، لأن الله لا يعبد إلا بما شرع، وعبادة الجاهل مضحكة للشيطان!! إننا في موريتانيا ندعي أننا من أتقى الشعوب، وأننا من أعبد الناس، والواقع أن أغلبنا يفهم
العبادة كغيره فهما مبتورا، فتراه يختصرها في الشعائر ويقتصرها عليها، فالعبادة عنده هي الصيام والزكاة والحج والصدقة!! ومن أدّاهم، فلا يمنعه ذلك من الكذب أو أكل الربا أو معاقرة الزنا أو شرب الخمور أو ترك زوجته متبرجة وبناته عاريات، أو أذية الجيران، أو عقوق الوالدين، فتراه لا يتورع أن يأكل المال العام الحرام أو أن يأكل أجر أجيره، أو أن يفسد في الدولة، أو أن يخرب البلاد، ولو كلف ذلك حبس الناس وتشريدهم وقتلهم، بسبب أنه يحسدهم أو يحقد عليهم، فهذا النوع من الناس فهم العبادة فهما مشطورا، فهمها فهما مبتورا، فهمها كشعائر، ولم يفهمها كمراقبة دائمة لله، وقد طرح القرآن سؤالا لمن لا يستشعر مراقبة الله قائلا: مالكم لا ترجون لله وقارا؟ مالكم لا تظنون الرجوع إليه؟ مالكم لا تخافون من عقابه؟
وبعض الناس يظن أن دعوة الناس للعبادة خاصة بمنبر المسجد، أو أن الدعوة لله خاصة بالمشايخ والعلماء والدعاة ورجال الدين كما يقولون، وإنما تشمل العبادة وتسع الدعوة الحياة كلها، إن صححنا النية ووافقنا في العبادة هدي محمد صلي الله عليه وسلم، فمنبر الإسلام منبر شامل لكل الناس كلّ من موقعه، ومن تخصصه وعلمه، فعليك أيه الرئيس في قصرك، والمرؤوس في دارك، والأستاذ في جامعتك، والجندي في ثكنتك، والصحفي في صحيفتك، والطبيب في مصحتك، والصانع في مصنعك والتاجر في متجرك، والطالب في قسمك، والموظف في عملك، والمدير في إدارتك، سواء كنت في الجو أو البر أو البحر، فعليك أن تعلم أنك على منبر من منابر الإسلام، وأنك في عبادة، وعلى حالة من حالات العبادة حتى في فراشك مع زوجك، فصحح النية واجتهد في عطائك، وتعلم فقه حالك ومحلك، ولا تعمل عملا حتى تعلم حكم الله فيه، فاسأل عنه تصح عبادتك، واعلم أن العبادة حالة شعورية تراعى القصد والمراقبة لله في كل ما تقدم عليه في حياتك، واعلم أنه لن تخلص النية في عبادتك إلا باستشعارك مراقبة الله لك، فانظر لا يُأتين الإسلام من قبلك، وكن متفانيا في عملك تأجر وتثاب، وحريصا على عطائك وإبداعك في مجالك تكن أنموذجا للآخرين.
واعلموا أنه لا راحة في العمر، ولا عطلة عن العبادة، فالعبادة صفة ملازمة للمسلم من بلوغ التكليف وحتى القدوم على الله، فاجتهدوا من أجل أن تستقبل الملائكة أرواحكم نقية من كل درن، صافية من كل شائبة، قال تعالي: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الحجر/99، فهي ليست عبادة فصلية أو شهرية، كما نرى من بعض الناس وهم يعبدون الله في رمضان، فإذا انقضى ولّو لما كانوا فيه وكأنهم لم يستفيدوا من هذه المدرسة، نعم هناك مواسم ونفحات وأوقات كرمضان مثلا علينا أن نجدّ فيها ونجتهد كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها على الصالحات، لكن ذلك لا ينسينا دورنا في الحياة كلها، وعلينا أن نعتز بالعبادة لله:
ومما زادني فخرا وتيها
دخولى تحت قولك يا عبادى
وكدت بأصبعى أطأ الثريا
وأن صيرت أحمد لى نبيا
لأنه يكفي الإنسان المسلم شرفا أنه عبدا لله في زمن علم الذرة الذي تعبد فيه الأبقار، ويعبد فيه الشيطان، وتعبد فيه الأنظمة، وتعبد فيه القوانين، وتعبد فيه الأديولوجيات، وتعبد فيه المادة، وتعبد فيه المقابر، وتعبد فيه المناهج، وتعبد فيه المصالح والأهواء، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) البقرة/65 فلا تتخذ أيها العبد من دون الله وليا ولا نصيرا، واعلم أنه حررك من كل هذه المعبودات لتكون له وحده عبدا شكورا بعبادتك، واعلم أن عدوك هو الشيطان، وهو دائما يقوم بعمله لإبعادك عن هذه العبودية، فاعمل أنت على القيام بعملك ومحاربة العدو بالاستعانة عليه بالله، والثقة في ما عنده، جعلنا الله وإياكم من العابدين الذين يستريحون عند النزع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته وهو يحتضر، عندما قالت: واكرب أبتاه، قال: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم).