محرج جدا تناول العقل العربي اليوم , لأن العربي فقد عقله ذات نكبة , فقد عقلة ذات احتلال , فقد عقله ذات خضوع , فقد عقله ذات خنوع , فقد عقله ذات خيانة و ذات ثورة ......
العقل العربي مأزوم من الداخل منذ أضحت بيوت العرب مسكونة بكل شيء إلا بما هو عربي !
تطورات القضية الفلسطينية و أزماتها المتلاحقة و حروبها المفجعة تحكي عمق الخلل في العقل العربي , تماما كما تحكيها مصافي النفط و حقوله المحاطة بعلامات الخيبة في العقل العربي , مثلها مثل الإعلام العربي و ماكناته التي تنشط بسرعة الضوء تفتيتا لبنية الإنسان العربي ....
لا يخفى على المتابع للشأن العربي و مسارات الأحداث التي تستدعي بل و تستوجب تأطير العقل حجم الخلل في التعاطي من الأحداث الجارية من لدن المفكرين و المحللين و أصحاب الرأي و صناع القرار , الذين لا يحتكمون سوى للفردية المطلقة و في أحسن الأحوال إلى دائرة العواطف المشتركة ضمن حوزة الجماعة الضيقة أو الخندق الفكري المغلق ...
تلك الفردية و الحميات , جعلت كل شيء في البيت العربي الكبير لا علاقة له بالعقل و لا علاقة للعقل بمآلاته , حيث الصراع الأزلي بين كتل بشرية تتدحرج على مسرح لا حياة فيه لغير ذي عقل و لا عقل فيه لذي تدحرج .
هل يصدق أن يقتل العقل نفسه , هل يعقل أن يقود العقل فناءََ كالذي نعيشه اليوم , و هل من العقل أن يحتكم الدم الواحد للحديد و النار و أن يغلب التردي عقولا صحيحة ؟!
العقل ميزة البشر عن سائر الخلائق , به صَيَّرَ الله الأمانة في جلباب المباح , و به تولى الناس اعمار الأرض و فصلت آيات الذكر الحكيم و تغنت الخليقة بالعدل و الإحسان و تباهت حضارة الإسلام و تربعت على عروش الجبابرة ....
إن عقلا لا يستوعب الإختلاف و لا يؤمن بالتنوع لا يمكن أن يسيطر على نفسه و لا أن يكفل لبيئته حق النمو الطبيعي , بل تفوت عليه نعم التسوسع و الاكتشاف ...
أزمة العقل العربي ليست لعنة يسلطها الحكام على المحكومين بقدر ما هي تركيبة إجتماعية ذات أبعاد تربوية و أخلاقية تصنع خاصية الفرد المتعالي داخل مجتمع فردي يخضع لقانون الخضوع المطلق منذ النشأة الأولى , إذا لا يتاح للعقل اكتشاف الأشياء و لا محاججة الواقع و لا نبش المسكوت عنه , فتظل أسئلة عالقة في الذهن تثقل كاهله حتى تصيره جزء مُعْتَلاََ من بنيته المركبة , حيث لا أفق لنقاش يفضي في النهاية لطمأنينة , حتى و لو كان المناقش لا يخضع لقداسة أحكام الكفر و الردة المختلف عليها ....
العقل العربي الحديث لم يستطع استيعاب جنون البحث المرهف عن حقيقة الوجود ضمن فضاء مفتوح يلبي حاجة البعض في الاقتناع بواجب التدين , إذا أن التدين الموروث المصمت المغلق و المغلف في كثير من الأحيان , يولد لدى البعض ممن يحاولون استعمال العقل في كل شيء ريبة مشروعة ضمن حيز الديانات السماوية كمحاججة من أجل الإطمئنان ( و لكن ليطمئن قلبي ....) لكنها خطيرة بل و مدمرة ضمن حيز مجتمعي لا يؤمن بأن للعقل دوره في إسكات الريبة بهدوء و سكينة دون أن يخدش ذلك حياء التدين و لا أن يقتل رحمته و لا أن يسلب الإنسان كرامته و لا حقه في تفعيل ملكاته الطبيعية ,...
هذا العقل المأزوم الذي نتابع تواصله مع ذاته المختلفة , يبدو في الغالب لا يستوعب النقاش و لا يبحث عن التكامل بل يسعى من خلال مطارحاته و نقاشاته إلى الإقصاء و تكبيد الآخر خسائرا جمة , منتشيا بالفردية و الاستعلاء , دون أخذِِ من فضائل الآخر و لا استفادة من تجاربة و رؤاه , فيكون الجدل العقيم الذي من السهل أن يتحول إلى ضغائن و أحقاد يتولد عنها فعل عدائي مزلزل ....
إن اختطاف العقل في المهد و تكبيله بالمحظورات و تفريغه من خصائص التفكر و التدبر و شحنه بالطاعة العمياء و الأوامر المجردة من النقاش و الفهم و الاستيعاب و المحاججة , لا شك يولد لديه انفصاما بين طبيعته المنطلقة و فضائه الواسع و أسئلته الجمة و بين حراس الوهم التقليدي و الموروث المستنسخ المشاب بالمآرب الضيقة و تحويرات المصالح السلطوية .
و في سياق متصل باختطاف العقل فإن الانتماء الاديولوجي ضمن محاولاته الحديثة لتأطير العقل و اخراجه من فلكه القديم , لم يستطع اقناع العقل بتجليات فارعة و محددة بل أظهر نسخا جديدة من استعباد العقل و تكبيله و إسلامه للآخر , لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع بين الأجنحة الأديلوجية التي لم توفق في احترام بعضها البعض فخرجت عن كل النواميس و القوانين في همجية واضحة للصراع على السلطة و الإنسان تحريفا لمصطلحات الجهاد و الولاء و البراء و القومية و الوطنية ....
أعود من جديد لأؤكد أن الحاكم العربي لا يمكن بتر صلة نزواته و جبروته و طغيانه عن دائرة العقل المجتمعي الذي يفرزه و يستكين له , يعضد ذلك أن العقول المطاردة في عالمنا العربي و التي تتبنى التمرد و تتقمصه بعض الأحيان , غالبا ما تكون بوصلة منفاها منكبة على التأشير نحو بلدان عدوة للأمة , حيث لا يستقر أي مطارد و لا يحلو له المقام إلا بين ظهراني المحتل الغاصب الذي يُتهم الحاكم بالتبعية له دائما , لذلك يكون من المشروع أن نفهم هذا الركون على أنه تكريس لتشابه العقل الحاكم بعقلية المطارد حيث لا اختلاف في الوجهة و لا في الولاء , و يزداد الوضع وضوحا حينما يكون قرار العودة من لدن العقل المطارد إلى الأوطان متشابها في كل بلداننا العربية وسيلته في ذلك هي مؤازرة العدو في الاطاحة بتلك الأنظمة و تدمير تلك البلدان بحجج و ذرائع سرعان ما يتضح أنها محض هراء ...!
و لكي نستعيد ألق العقل العربي من جديد علينا أن نعود به أدراجه إلى حيث استطاع النبي الأكرم , أن يفتح عقول الناس على الكون و أن يمارس معهم شؤون الحياة بكل تفاصيل المحاججة و الاعتراض و النقد و المسائلة و أن يخوض معهم صراعا يحترم كرامة الإنسان مهما كانت ديانته أو عرقه أو دائرة تفكيره , ضمن مؤسسة رفعت بلالاََ على أمية بالتقوى, و خلعت جبال كسرى و قيصر و أنصفت أهل سمرقد بالعدل و الحزم....
نحن بحاجة لتصحيح مفاهيم التبست علىنا حينما تركنا سبيل القرآن و ابتعدنا عن رحمة الإسلام و انبهرنا بزيف حضارة الغرب التي بنيت على أكتاف المستضعفين و دمائهم و لازالت تنظر بحيف متعمد إلى قضايا منطقتنا و تسعى بكل ما أوتيت من قوة أن تدمر كل ما له صلة بالعقل في بلداننا حفاظا على أذرعها و مصالحها و شرهها المستطير , و الذي سيقضي علينا تباعا ما لم نأخذ فسحة من عقل و أخرى من سلم , نعيد فيهما ترتيب البيت الداخلي و تنقية الصدور و صقل المرايا و مصالحة مع أوامر السماء .