النخب.. وفشل الخطاب / اسغير ولد العتيق

 يعتبر الخطاب السياسي وعاء لمختلف الخيارات الإستراتيجية و التوجهات الاقتصادية والثقافية ، نظرا  لامتداده التاريخي  وقيمته  التوثيقية .
 في بلدنا كما هو الحال في بلدان أخر،يهمين الخطاب السياسي على مختلف أوجه الحياة بما في ذلك الجانب الروحي و الديني للسكان ،

ومع الزمن  ينكشف المستور،فتظهر أوضاع اجتماعية وفكرية ظلت غائبة ومغيبة ،متجاوزة ومحتواة ،مبتلعة ومفقودة للعضوية في المنظومة العامة الثقافية والاجتماعية للبلد ،وضعية  - جديدة قديمة- تفرض إعادة صياغة وتشكيل بنية الهيكلة السلمية الموروثة عن السلف،  لذلك يجب على النخبة أن تكيف الخطاب الوطني السسيوسياسي مع المعطيات حديثة التداول ،حتى تتلاءم والواقع المعيش بصيغة قابلة للاستيعاب لضمان النمو والصيرورة للمؤسسة الاجتماعية الوطنية، خصوصا إذا تعلق الأمر بواقع اجتماعي  هش ومعقد يتطور باستمرار لمسايرة الحركة الديناميكية للمتتالية الزمنية لانسياب الحركة الفكرية للعلوم والتكنولوجيا، المتجاوزة لنماذج البناءات الفوقية، التي شكلت مرحلة أساسية في العهود الظلامية من حياة مجتمع المحافظة السلبية والمموهة .
        في - رأينا - أن المحافظة هي نوع من التحديث أو التجديد المموه والممنهج لا يرق  لطموح وتطلعات الطبقة الكادحة، تلجا له نخبة الأسياد المتحكمة في السلطة لإقناع الرأي العام على أهمية دور العناصر الجديدة التي تم إدخالها على مرجعية  المنظومة الأخلاقية والحضارية للدولة " العناية بالفقراء،مجانية التعليم، توظيف الكثير من أبناء الطبقات المسحوقة ،استصدار القوانين المعاقبة للجرائم الاقتصادية محاربة الفساد العدالة ،الحرية...والحقيقة أنها مدخلات تتفق مع العناصر المقدسة في البناء الأيديولوجي الذي يؤمن لهم موروث آبائهم الأولين ، فيما تشكل هذه التحسينات أو المدخلات أقراص تهدئة وتنويم للطبقة الكادحة ،
        وبما أن استمرار البنية الرمزية التقليدية كان السبب الرئيسي المباشر للنزاعات الاجتماعية التي غالبا ما تنتهي بصراعات تخلف تصدعات قوية وهزات عنيفة من الصعب تجاوز آثار صدماتها النفسية على مدى فترة زمنية قصيرة"خذ مثلا الآثار السلبية لأحداث 1989  " .
      تلك المرحلة إن لم نكن نعيشها اليوم فإننا نقف على حافتها ونستنشق رياحها اللحظة بعد الأخرى، نتيجة  لغياب البعد الوطني الإجتماعي في الخطاب السياسي للنخبة إضافة إلى ضيق الأفق و المساحة الاستيعابية  له وتفسخه من طابع الشمولية ، وبالتالي فإني لا استغرب  في البحث عن ملء الفراغ اللجوء للخطاب الفئوي ، الشرائحي ،العرقي، القبلي و القومي...كبدائل لتعويض العجز الحاصل في الخطاب السياسي ،والنتيجة في النهاية ظهور حركات متخصصة ونزاعات عرقية قوية وحماسية تستهدف جماهير نوعية بعينها لفرض التغيير وكسب رهان المرحلة  وبين هذا وذاك قد تتشكل طبقة مختلطة من المفكرين والسياسيين  ، تؤمن بالديمقراطية ،  تشبعت من المدارس العلمية والفكرية واستفادت من تجربة وافكار فلاسفة عصر الأنوار، متاثرة بالثقافة والحضارة الغربية المدنية ،مشتاقة  لنماذج الحكم الديمقراطي المطبق فيها ،وسلوك حياة شعبها المدني الوظيفي الراقي المحترم لكرامة الإنسان الخادم للمواطن،في دولة ديمقراطية تشبعت شرايين مؤسساتها العمومية والخصوصية بروح القانون والمواطنة ونكران الذات والمسؤولية المهنية والتفاني في الخدمة والوفاء للوطن والإحساس بالمسؤولية العامة  كي لا يقع تسريب وتهريب ...
       طموح إذن سيولد  ردة فعل من نخبة بدت طلائعها في طورا لنشأة والتكوين ثائرة  متمردة على  واقع الحرمان والإقصاء وسوء التسيير وانتشار الفساد وانسداد الأفق فالفضاء تشبع لحد الكفاية بالضجيج والأصوات المعبرة عن الاستياء ،قد لا تكون هذه النخبة متوفرة اليوم لكنها بالآلاف غدا وليس غدا ببعيد ،لقد بدأت ملامحها فعلا في نفر ليس بكثير.
         إن الرباعي المشئوم الفقر ،البطالة،الإحباط و اليأس يدفع بالفئة الشابة النشطة في المجتمع  التي تئن تحت وقره، إلى ارتكاب أبشع الجرائم الاقتصادية والاجتماعية والعمل والعمالة لشبكات الاستخبارات الدولية و الانخراط والتنسيق مع عصابات بث الرعب الإجرامية ، التي تستخدم الممنوع والمحظور من أجل الكسب والحصول على لقمة العيش، كما هو للأسف حال اغلب دول العالم العربي التي أصبحت مسرحا وساحة  لتجريب وتهريب الأسلحة وتدريب الجيوش الغربية .
          حسب المعطيات التي تحدد حركية الشعوب نحو الأفضل، ينافس مجتمعنا على الإنفراد بالرتبة الأولى عالميا في إعادة إنتاج التخلف ،لأنه وبكل بساطة مجتمع يكاد يكون لا يتغير للأحسن، بل للأسوأ يتجه ويقترب الساعة بعد الأخرى ،لا تؤثر فيه إيقاعات الحياة الاجتماعية المتحركة المتجددة دوما ولا إفرازات الشعوب ولا اكراهات المتغيرات العالمية والعلمية، فهو مجتمع ثابت ، استاتيكي الحركة ، لا يستجيب لحتمية حركة التاريخ ،عصي على تطور الفكر والنمو، بطيء الاستجابة في التعامل مع مستجدات العصر.
        إن الآثار السلبية التي تمخضت عن الاتجاهات العقائدية العميقة ساعدت إلى حد كبير في تمايز المجتمع العربي الموريتاني، أكثر فأكثر في فترة عنوان الثورة العلمية وشمولية العولمة وتجاوزها للحدود الجغرافية واختصارها للمسافات ،في هذا المنعرج الخطير من حياة البشرية لا يحتاج فيه مجتمعنا لشيء أكثر إلحاحا من الخطاب الوحدوي الموحد، الذي لا يقصي فردا ولا جماعة، بل ينمي البعد الوطني والروح الاجتماعية والنظرة الشمولية واحترام الآخر بما في ذلك خصوصيته الثقافية  وحقه في الاختلاف.
       إن عدنا بالذاكرة قليلا و فرفرنا صفحات التاريخ القريب والبعيد نسبيا لتأكدنا  من عجز النخب منذ الاستقلال الممنوح 28نوفمبر1960عن إحداث التغييرات الايجابية الملموسة في  الواقع  الاجتماعي والسياسي للبلد ،تعددت الشعارات وتنوعت تبعا لخلفيات وأهداف الحركات السياسية النخبوية المناهضة للسلطة وسلوك مجتمع البداوة  المرتكز على البعد القبلي الضارب في القدم برمزيته وتقاليده وأعرافه الذي نشأت عليه  الدولة كركن أساسي وعملت الأنظمة المتعاقبة العسكرية وشبه المدنية على إعادة إحيائه ،مما شجع  وحفز الطبقات المنسية المحرومة والمقصية على الانتظام في التكتلات العرقية والانتماءات الفئوية والشرائحية  .
         تأثرت النخبة المنتظمة في الحركات الحركة الوطنية الديمقراطية الكادحين و الحركتين القوميتين الناصرية،البعثية بأساليب وثقافة و فلسفة النظام الاقصائي اللاديمقراطي القبلي أكثر من تأثيرها بعلوم ومعارف وثقافات المدارس التي تنتمي لها هذه الحركات وتؤمن بفكرها، وبالتالي اعتقد أن التجربة أثبتت أن هذه الحركات إن لم تكن رجعية فهي ليست تقدمية يقينا، لان سلوك منخرطيها ومؤطريها ونظرتهم للواقع  الإجتماعي تتاثر  من داخل الوسط القبلي لم بالفكر الذي ينتمون له، ولا يختلف رجال الدين ولا رواد الحركة الإسلامية بمختلف مذاهبها واتجاهاتها عن حقل ايديولوجية فلسفة الإقصاء بل إنهم الذراع الأساسي لتبرير وتهميش الطبقات المغلوبة على أمرها كالعبيد وغيرهم من الأتباع انطلاقا من إصدار الفتاوى باسم الدين وتمريرها لخدمة أهداف الطبقة الإقطاعية   ...
         إن  جوهرالخطاب السياسي النخبوي خارج عن سياق التجربة والمقارنة التاريخية التي عاشت المجتمعات بحيث يصعب استخلاص نمودج قابل للتطبيق ،نتيجة لعدم شموليته للجزئيات الخصوصية للفئات الأقل حظا ،لأنه  في الحقيقة يستمد روحه من ايديولوجية اقصائية متجذرة منذ قيام الدويلات القبلية في عهد السيبة في هذا المنكب البرزخي من المعمورة ،واليوم تبدوا الحاجة في إيجاد خطاب سياسي وطني  نموذجي يحافظ على  قيم الوحدة النقية الذاتية للمجتمع ويحقق الاندماج الفعلي  الذي تذوب فيه الانتماءات الضيقة وتنكسر على جدرانه افكار العصور الظلامية .
        إن القوى السياسية الفاعلة في الساحة  الوطنية يجب ان تعترف  بعجزها وهشاشة تنظيماتها وضعف تكوينها وسهولة اختراقها من طرف الأنظمة الأحادية ، نخبة إذن لها ان تعترف بأخطائها  بفشلها في تكوين الأجيال، بعجزها عن تحقيق أهداف قيم الحرية والعدالة والديمقراطية  سواء كانت نخبا معارضة تحمل مشاريع إصلاحية  اجتماعية وديمقراطية أو تلك التي دافعت و تدافع عن السلط التسلطية الدكتاتورية التي تعاقبت على إدارة البلد  لخمس وخمسين سنة انطوت من الفشل الديمقراطي والمحاولات اليائسة استطاع خلالها النفوذ العسكري إسكات وإخضاع الصوت المدني بكل حركاته وتحركاته.
      في بداية العقد الثاني  من الألفية الثالثة بدأت الدولة تفقد جزء كبيرا من هيبتها ومشروعيتها عند طبقة عريضة من الشعب نتيجة لنشاط الحركات المطلبية من منظمات نقابية وحقوقية وأحزاب سياسية وأشخاص طبيعيين وحركات طلابية وفئوية وعرقية ترفع شعارات الشعور بالغبن والحرمان عندما عجزت ايديولوجيات التضليل والتطبيل عن تحقيق الاندماج المطلوب ،ارتفعت أصوات الرغبة في التغيير واتسعت دائرة استجابة الأفراد والجماعات لأملاءات العصر واكراهات  الفاصلة الزمنية لاستعداد الشعوب وتضحيتها  في سبيل الديمقراطية  حتى ولو اقتض الأمر الخروج العلني وحمل السلاح ،كما هو حال معظم دول العالم اكرانيا،فنزويلا،سوريا،اليمن،ليبيا،مصر...
      فشلت النخب السياسية الوطنية إذن في إحداث التغيير وإبعاد النفوذ العسكري وفشلت الإحكام العسكرية في رسم ملامح  بناء دولة  ديمقراطية .

9. يوليو 2015 - 10:35

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا