كلمة الإصلاح النابعة من وحي رمضان تتعلق هذه المرة بالإنفاق في هذا الشهر الكريم الذي اختاره الله أن يكون ظرفا لنزول هذه المعجزة الكبرى واختاره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون ظرفا لكثرة إنفاقه فيه كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم .
نعم : إن هذا القرآن لا يقرؤه مسلم ويلاحظ ما جاء فيه من الحث على الإنفاق في سبيل الله إلا وتمنى أن يكون له ملء الأرض ذهبا وينفـقه إلى آخر دينار منه في سبـيل الله .
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمر في الحديث الصحيح باتقاء النار ولو بشـق تمرة فما بالك باتقائـها بالألوف والملايـين .
فليعلم المسلمون جميعا أن الله خص هذا الإنفاق من بين الواجبات المفروضة فرض عين بعبارات لم تأت إلى في الإنفاق .
أولا : جعل الإنفاق عقبة دون دخول الجنة يقول تعالى(( فلا أقـتحم العقبة وما أدريك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغـبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة )) .
ثانيا : القرآن جعل الكفر دائما قريـنا لعدم إيتاء الزكاة بل وحتى لعدم الحث على طعام المسكـين يقول تعالى (( فويـل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة )) ويقول تعالى (( أرأيت الذي يكـذب بالدين فذلك الذي يـدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين )) .
أما أجر الإنفاق في رمضان ومضاعفـة هذا الأجر فلم يرد في القرآن تـفـننا في العبارات التي تعبر عن مضاعفة الأجر مـثـل ما وردت في قضية الإنفاق .
وفي آخر سورة البقـرة التعبـير العجاب عن مضاعفة أجر هذا الإنفاق يقول تعالى (( مـثل الذين ينـفـقون أموالهم في سبـيل الله كمثـل حبة أنبتـت سبع سنابـل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عـليم )) وهنا نترك للحاسبين تقدير ذلك ولن يستطيعوا .
ويقول تعالى (( الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانـية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) .
وقد جاء في القرآن تعـبـير عن الفرق بين الصدقة السرية والعلانية لا يعبر به إلا عالم الغيب والشهادة حيث بدأ يمدح الصدقة العلانية وجاء في هذا المدح بأحسن تعـبـير تعـبر به العرب عن الإعجاب بالشيء وهي كلمة " نـعم " كما قال تعالى في مدحه لنبـيه سليمان عليه السلام فقال (( ووهبنا لداوود سليمان نعـم العـبد إنه أواب )) .
كما مدح أيضا عـبده الصابر أيوب يقول تعالى (( وخـذ بيدك ضغـثا فأضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العـبد إنه أواب )) .
وهنا عـبر القرآن عن الصدقة العلانية بكلمة " نعم " يقول تعالى (( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خير لكم )) بمعنى إن تعطوها خفية للفقراء فهـــــي نعما هي وخير ممن يقال فيه نعما هي ،إلا أنه يجب على المسلم أن يـتـنـبه للأمارات التي بيـنها الله تبـيـينا شافـيا لمكان هذا الإنفاق حتى يقـبـله الله ، فالله قال هنا (( وإن تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خير لكم )) والفقر صفة خاصة بصاحبها لا تـتـشابه عند الله مع أي صفة أخرى لا صفة الصلاح ولا صفة الولاية لله .
فالله يقول (( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ...)) الخ الآية فهو قادر أن يقول إنما الصدقات للفقراء والمساكين والأولياء والصالحين إلى آخره .
فالعلاقة مع الصالحين ذكرها الله دون أن يكون فيها الإنفاق عليهم يقول تعالى (( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي )) والعطاء لهم تولى الله أمره في قوله (( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )).
أما الهدية لهم كما هو الاسم الذي يعلمه الشيطان للمنفق عندما يريـد أن لا ينـتـفع المنفق من إنفاقه فيقول له سميها الهدية ومن المعلوم أن الهدية هو عطاء خاص لأناس مخصوصين يحرم عليهم أخذ الصدقة وهذا الاختصاص بسبب نسب وليست عبادة .
فالنبي صلى الله عليه وسلم تحرم عليه الصدقـة وعلى آله الذين عرفهم هو بآل المطلب وقـيل أنها تشمل أيضا آل بني هاشـم .
أما الهدية الأخرى بين المسلمين التي تعنى التواد والتحابب بين المسلمين مطلوبة من الجهتين : تهادوا تحابوا وليس المطلوب بها الأجر من الله إلا من جهة أن التحابب بين المسلمين مطلوب لذاتـــه .
فالإنفاق في غير الوجه الخالص لله يكون حسرة على صاحبه يقول تعالى (( إن الذين كفـروا ينـفـقون أموالهم ليصدوا عن سبـيل الله فسينـفـقونها ثم تـكون عليهم حسرة )) .
أما الإنـفاق الخالص الذي لا يـريد صاحبه من ورائه أي ثــناء ولا اعـتـبار إلا من الله جل جـلاله فهو الإنفاق الذي رفع الله وصف جزائه حتى أصبحت عباراته تشـبه عطاء الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فالله يقول لنبيه (( ولسوف يعطيك ربك فترضى )) ويقول لمن أنفق ماله لمجرد وجه الله الأعلى (( وما لأحد عـنده من نهـمة تجزى إلا ابتـغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى )) فليحذر المسلم من تدخل النفس الأمارة بالسوء لتزيـين إنفاق مال لم يأمر الله بالإنفاق عليه ، فالإنفاق المقبول عـند الله هو ذاك العطاء الذي يأخذه المعطي له ولولاه لهلك أو شبه ذلك وهذا يشمل كل ذي كبد رطب معناه يشمل إغاثـة كل حي ذي روح ولو كان كافرا أو حيوانا كما في قصة الغفران للمرأة البغـية التي سقت كـلبا عـندما رأته بلغ من العطش حد الهلاك وهو لا يستطيع نزع الماء من البـئر فأخذت خفها ونزعت به ما سقت به الكلب فغـفر لها بسبب ذلك ، فعلى المنفق أن يتيـقن أنه سيسأل قـبل أن تزول قدماه عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وبناء على ذلك فليتحر أن يكون إنفاقه طبقا لمن أمر الله أن يعطى له هذا الإنفاق ،يقول تعالى : (( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنيـاء من التعفف تعرفهم بسماهم لا يسألون الناس إلحافا )) .
هذا الوصف الدقيق الصادر من الله جل جلاله يصف به للمنفق الأشخاص الذين يطلب منك ربك أن تـنفق عليهم ووصفهم بلام الاختصاص بقوله للفقراء في قوله تعالى (( وما تـنفقوا من خير فلأنفسكم وما تـنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تـنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون )) للفقراء ، بمعنى أن هذا العطاء يكون للفقراء الموصوفين فيما بعـد .
وعلى كل حال فعلى المؤمنين الذين أعطاهم الله من ماله أن يعطوا من هذا المال لعباد الله الذي جعلهم محرومين في الدنيا من امتـلاك هذا المال وليعلموا في نفس الوقت أن المال مال الله وأنه هو الذي أعطاه لهم كما قال تعالى (( واتوهم من مال الله الذي آتيكم)) وجعـل هذا العطاء حقا لهذا المحروم كما قال تعالى (( وفي أموالهم حق معلوم للسائـل والمحرم )) ،وعلى المسلم أن يجعل هذا الأنفاق حيث أمر الله أن ينفق ويكون خالصا لوجه الله وأن يكون حلالا طيـبا فالله لا يقـبل إلا طيـبا وإذا استطاع أن يكون أكثر هذا الإنفاق في رمضان لأن الطاعة يكثر أجرها بحسب الزمان والمكان فليغـتـنم الفرصة في العشر الأواخر من رمضان ،وأخيرا فيقول الله لكل مؤمن (( لن تنالوا البر حتى تـنفقوا من ما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم )).