الانقلاب الدائم على الشعب 2/3
أ. الانقلاب الدائم على الشعب
بين السياسة والحرب
عندما تورطت بلادُنا، خلال شهر ديسمبر سنة 1975، في حرب شرسة في الصحراء، دامت ثلاث سنوات، أبلى فيها جيشها الوطني الفتي بلاء حسنا، رغم صعوبة الظروف، وقلة الموارد والسلاح، وعدم الإعداد والاستعداد لخوض مغامرة بتلك الخطورة؛ كانت السياسة هي التي تقود الحرب. وكان الحكم المدني القائم - على علاتـه - هو الذي يقود الجيش ويشرف على إدارة الحرب، وليس العكس. وكان وزير الدفاع، يومها، أستاذ آداب، ربما حمل تعيينـه - دون غيره - في ذلك المنصب الحساس دلالة رمزية على تمسك الدولة الوطنية، في أحلك أوقاتـها، بمؤسساتـها الدستورية، وتشبثها بالطبيعة المدنية لنظام الحكم! فالحرب امتداد للسياسة، وتقودها السياسة. وهي أيضا - كما قال جورج كليمانصو - "أخطر من أن يوكل أمرها إلى الجيش" ناهيك عن أن يُعْهد إليه - أو يَتَعَهّد هو من تلقاء نفسه - بتولي أمر السياسة، وتدبير شؤون الحكم!
كانت موريتانيا، في نـهاية ذلك العام الذي اندلعت في آخره حرب الصحراء الكيدية، تحتفل بمرور خمس عشرة سنة على استقلالها. وكان احتفالها بتلك الذكرى متميزا ذلك العام، لأنـه يوافق الذكرى الأولى لتأميم "ميفرما" (شركة استخراج وتصدير الحديد التي كانت تشكل دولة أوروبية داخل الدولة)!
ولما كان مطلب تأميم "ميفرما" يتصدر أولويات برنامج الحركة الوطنية منذ نشأتـها، فقد نجم عن إنجازه على يد الحكومة - ضمن إصلاحات وطنية أخرى - قيام حلف وطني بين تلك الحركة وبين الجناح الوطني الحاكم في النظام، كان من أبرز أهدافه دعم وحماية المكاسب والسياسات الوطنية والإصلاحية الرامية إلى الخروج من نِير الهيمنة الاقتصادية الفرنسية، والقضاء على "استغلال الإنسان للإنسان" (العبودية). الأمر الذي رأت فيه السلطات الاستعمارية وحلفاؤها التقليديون خطرا داهما على مصالحهم في موريتانيا وفي المنطقة؛ فاستنفروا قواهم، في إطار حزب سري أطلق على نفسه "حزب العدالة" وبدؤوا العمل من داخل النظام للإطاحة بالحلف الوطني الجديد وسياساتـه الوطنية الديمقراطية، وللاستيلاء على السلطة.
وقد وجدوا ضالتـهم المنشودة في إقحام البلاد في حرب عبثية، رأوها أنجع وسيلة لإضعاف السلطة المركزية، وإرباك القوى الوطنية، وتنمية قدرات ودور الجيش الذي تتكون لحمتـه يومئذ من أبناء العشائر المحاربة، والقادر وحده على تحقيق مآربـهم في الوصول إلى السلطة؛ خاصة أن قوى إقليمية ودولية أخرى فاعلة، تواطأت معهم لأسبابـها المختلفة؛ ورتبت لهم خطة الوصول إلى السلطة عن طريق الانقلاب، بعد أن يئست من استمالة غيرهم من القوى الوطنية (الكادحون مثلا).
وآتت الحرب أكلها المنتظر، فقام في دجى العاشر من يوليو سنة 1978 ضباط توصم أغلبيتهم بالميول العشائرية والتثاقل في النفير خلال الحرب وبالغلول، بانقلاب عسكري ناجح استولوا فيه على مقاليد السلطة.
نشأة الأحكام العسكرية في دول العالم الثالث
حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وهبت أمم المستعمَرات من وهدتـها، وبدأت تخرج تباعا من ربقة الاستعمار المنـهَك؛ لم تكن ظاهرة الانقلابات العسكرية، والحكم العسكري، قد برزت بعد إلى الوجود في العالم الثالث؛ ذلك أن حركة الاستقلال كانت يومئذ - في عمومها - تعبيرا عن إرادة تحرر شعبية مدنية واسعة، وكانت دوله منبثقة - في معظمها - من رحم الدولتين الاستعماريتين الكبيرتين: بريطانيا وفرنسا اللتين أضفتا على تلك الدول الوليدة صبغة ديمقراطية تحاكي نمط الحكم السائد فيهما (النظام البرلماني في موريتانيا مثلا).
ولم تظهر الانقلابات وحكم الجيش، كتيار جارف في العالم الثالث، إلا مع سيطرة أمريكا على العالم، حين "رأت الولايات المتحدة أنـه في الدول التي يصعب فيها التحكم في الشرطة والعسكريين بطريقة مباشرة، يجب قلب نظام الحكم، وأن يصل إلى الحكم فيها نظام أكثر توددا للولايات المتحدة، وأن يوضع على رأس القمة والحكم جيش دائم التواجد في السلطة على طريقة الحرس الوطني أعوان سوموزا الذي ظل طيلة سنوات حكمه من المقربين للولايات المتحدة". وكانت أساسيات السياسة الأمريكية يومها، وما تزال، تقوم - حسب ما صرح بـه قائد بحريتـها إي. إم. جراي - على "صراع الشمال والجنوب الذي هو خط أساسي فاصل، وعلى المحافظة على تواصلنا مع الأسواق في العالم، وكذلك استمرارية حصولنا على المواد الخام الضرورية لدعم حاجاتنا الاقتصادية دون صعوبات"! (روجي جارودي "أمريكا طليعة الانحطاط" صفحتا 80 و81).)
فالانقلابات العسكرية والحكم بالجيش، إذن، لم تكن وليدة تطور اجتماعي طبيعي، ولم تأت لتلبية أي ضرورة من ضرورات التقدم والنمو في بلدان الجنوب؛ بل هي اختراع استعماري يلبي حاجة دول الشمال الاستعمارية في قهر إرادة الاستقلال لدى شعوب الجنوب، وقمعها وإرجاعها إلى حظيرة الاستعمار الجديد بالوكالة المعدل وراثيا: الانقلاب على حكم مصدق الذي أمم بترول إيران، الانقلاب على لومومبا الذي حرر الكونغو، الانقلاب على أحمد بن بله زعيم ثورة واستقلال الجزائر، الانقلاب على كوامينكروما محرر غانا وقائد حركة التحرر في إفريقيا، الانقلاب على أحمد سوكارنو قائد استقلال إندونيسيا ورائد حركة عدم الانحياز، الانقلاب على موديبو كيتا قائد الاتحاد المالي ومحرر دولة مالي، والانقلاب على آلييندي قائد شيلي ورئيسها المنتخب ديمقراطيا بصورة لا لبس فيها... إلى آخر تلك السلسلة؛ بما فيها انقلاب العاشر من يوليو في بلادنا.
وغني عن البيان أن ظاهرة الانقلابات والأحكام العسكرية ما كانت لتتفشى وترسخ في بلداننا - مهما حاول الاستعمار- لو لم تجد بيئة ملائمة لاحتضان ذلك النبت الشيطاني أبرز سماتـها التخلف الاقتصادي والاجتماعي، واستباحة المال العام، وضعف الوعي الوطني، وانتشار الأمية، وهشاشة الطبقة السياسية، وتفشي روح الطمع في المجتمع، والتركبة الاجتماعية للجيش، وعلاقة بعض كبار ضباطه بالمؤسسات العسكرية والمخابرات في الدول الاستعمارية راعية المشروع الانقلابي!
الانقلاب الدائم على الشعب
ربما يتذكر معاصرو انقلاب العاشر (10) من يوليو، أنـه لم يستقبل بالورود، رغم ظروف الحرب القاسية، ورغم ما أطلقه القائمون عليه من وعود.. بل قوبل، عموما، بالريبة والتوجس، والفتور الملامس للرفض؛ وذلك بسبب طبيعة معظم العناصر المدنية والعسكرية التي خططت له وقادتـه. خصوصا منـها تلك التي شكلت لحمة اللجنة العسكرية والحكومة. ومن التجليات البارزة لذلك، فشل البرنامج الإذاعي "جرائم وأغلاط الحكم البائد" الذي استحدث لعلاج عزلة الانقلاب، في استقطاب متحدثين محترمين إليه؛ أحرى أن يجلب أي دعم معتبر للانقلاب. وهذا ما يفسر توجه الانقلابيين المبكر إلى الحثالة، وفلول المجتمع العشائري التقليدي، وبعض الشيع السياسية الهامشية، لتشكل واجهة النظام الجديد؛ سواء أكان ذلك عبر "لجان التطوع" أم بواسطة "هياكل تـهذيب الجماهير".. بينما ظلت قاعدتـه الاجتماعية "الصلبة" هي تحالف القوى التقليدية المناوئة أصلا للاستقلال والحرية بقيادة فئة المال والأعمال الوليدة التي استفادت من التأميم، والقروض، ومرتنة الاقتصاد.. ومن الحرب أيضا!
ولعل ذلك ما حدا بفئات سياسية واجتماعية واسعة - من بينـها بعض كبار ضباط الجيش من وطنيين ومتشبثين بالشرعية- إلى إعلان معارضتـها ورفضها الفوريين للانقلاب؛ خصوصا أنه كانت وراء ذلك التحالف أيدٍ أجنبية واستعمارية حانقة توجهه وتملي عليه!
ومما تجدر ملاحظتـه هنا، كون التحالف الاجتماعي المنقلِب، بادر فور استيلائه على الحكم صبيحة العاشر من يوليو، ببسط نفوذه التام على اللجنة العسكرية. وقد تم له ذلك عندما قام بتصفية نفوذ العناصر التي كان لها دور حاسم في إنجاح الانقلاب، ولكنـها ذات خلفية وطنية، ولديها طموح للزعامة والإصلاح، وشيء من الرصيد الشعبي، مثل المرحوم الرائد جدو ولد السالك وأخيه الملازم المختار. وقد تم له ذلك عن طريق اللجوء إلى تبني معياريْ أولوية الرتبة العسكرية على الأداء في الانقلاب، وصيانة وحدة الجيش! وهذا ما أدى إلى إقصاء ملازم الحرس المختار ولد السالك نـهائيا من عضوية لجنة عسكرية دخلها - بذريعة صيانة وحدة الجيش - ستة عقداء كان خمسة منـهم خارج العملية الانقلابية؛ بينما حل المرحوم جدو - الذي شكل زحفه من الجبـهة على العاصمة نواكشوط، واحتلاله لها الحدث الحاسم في نجاح الانقلاب - في المرتبة الثانية عشرة بسبب رتبتـه المتدنية نسبيا! مما جعله يقول بمرارة لأخيه المختار، فور تشكيل اللجنة العسكرية وهو يرى خروج زمام الأمر من يده: "خَدَعَنا (...) ولكننا، سنعيد الكرة من جديد!".
ولكن جدو الذي أناخ أعزل بوزارة الداخلية، سرعان ما تمت إقالتـه من الحكومة يوم 21 من مارس 1979 صحبة زميليه سيد أحمد ولد ابنيجاره ومحمد يحظيه ولد ابريد الليل، وبطل حرب الصحراء فياه ولد المعيوف الذي لم يكن شريكا في الانقلاب (أي بعد أقل من عشرة أشهر على قيام الانقلاب) ليختفي إلى الأبد بعد أقل من عشرة أشهر أخرى!
وتوالت الهزات الارتدادية العسكرية على زلزال العاشر من يوليو ونظامه البالي، الواحدة تلو الأخرى:
- انقلاب 6 من إبريل 1979، بقيادة العقيدين أحمد ولد بوسيف ومحمد ولد عبد القادر رحمهما الله.
- مشروع الرائد المرحوم جدو ولد السالك الذي كان قيد التنفيذ.
- حركة 16 من مارس 1981 بقيادة العقيدين المرحومين محمد ولد عبد القادر وأحمد سالم ولد سيدي.
- انقلاب 12 /12/ 1984 بقيادة العقيدين معاوية ولد سيد أحمد الطايع وأحمدُ ولد عبد الله رحمه الله.
- انقلاب 8 من يونيو 03 بقيادة الرائدين صالح ولد حننـه ومحمد ولد شيخنا والنقيب عبد الرحمن ولد ميني.
- انقلاب 3 من أغسطس بقيادة العقداء محمد ولد عبد العزيز واعلي ولد محمد فال ومحمد أحمد ولد الغزواني.
- وانقلاب الجنرالات في 6 من أغسطس 2008!.
هذا عدا انخراط عشرات الأحزاب، والحركات العلنية والسرية، والفئات الاجتماعية الواسعة الأخرى، والشخصيات الوطنية، في العمل ضده، وسعيها الدائب في سبيل إنـهائه؛ الشيء الذي أججه في نفوس الناس ما عرف من تعاظم نفوذ وسيطرة جماعات الضغط المافيوية في ظله، واستشراء الفساد والظلم في جميع عهوده، وفشل كافة أشكاله في تحقيق أي إنجاز اجتماعي معتبر على جميع الصعد.
ومع ذلك، فقد ظل ذلك النظام جاثما على الصدور زهاء ثلاثة عقود، لا يتبدل ولا يريم. وظلت الكلمة العليا فيه للدبابة والمدفع المخطوفين حينا، وللمال الحرام والجاه والنفوذ الأجنبي في شتى الأحايين. لم تزحزحه الضربات القاصمة التي وجهت إليه، ولم تنهه جميع المحاولات التي استـهدفت إزاحتـه، بصفتـه داء عضالا يشل سير المجتمع، ويلغي دور الناس، ويحمي الفساد والتخلف، ويتولى الاستعمار والصهيونية:
- "مشروع" العقيد أحمد ولد بوسيف التصحيحي طار معه في طائرة عسكرية مريبة لم تكشف طلاسمها حتى الآن، رغم أنـها كانت موضوع قصة بوليسية عالمية!
- "مشروع" المرحوم الرائد جدو ولد السالك التصحيحي دفن معه ومع سر غيابـه المبكر، في عنفوان شبابـه، عن الساحة الوطنية عبر سيارة تابعة لإدارة الأمن يقودها شرطي لم يصب بأذى!
- "دستور" الرئيس محمد خونا ولد هيدالة، الذي تمت صياغتـه، لم ير النور قط! وسرعان ما أطيح بعرّابـه عندما "استأسد" وحاول وضع يد الدولة على الثروة السمكية بإنشائه الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك، ووقف عقبة في طريق نـهب المال العام وتجاوز الدولة، والانضواء تحت لواء البنك والصندوق الدوليين، و"تجارة" دفن النفايات في موريتانيا!
- "دستور" الجمهورية الثانية البديع بقي حبرا على ورق، يدبّج غصب السلطة عن طريق التزوير والقوة، ونـهب المال العام، وتبديد الثروة، واستبداد الحاكم، وطغيان الحاشية، وشقاء ومعاناة الشعب!
- و"الإصلاحات الدستورية" التي بشرت بـها حركة 3 من أغسطس وأسست للجمهورية الثالثة، وهلل لها العالم، وكانت ثمرة نضال مرير، وحصيلة تشاور واسع، ابتلعها - في لمح البصر- الفساد العائد بقوة وإصرار، ثم داست بقاياها جنازير دبابات الجيش الرافض المستنفر!
..غاب أحمد ولد بوسيف وجدو ولد السالك وانجاي انجاك وجابي كامارا وابوه ولد المعلوم وشامخ ولد لمرابط وأحمد ولد منيه، ومحمد الأمين ولد انجيان وغيرهم في ظروف غامضة جدا. وأعدم محمد ولد عبد القادر، وأحمد سالم ولد سيدي، وانيانغ مصطفى، ودودو سك وغيرهم. وأطيح بولد هيدالة. ودُجّن معاوية. وغُلب أحمد. وهُزم فرسان التغيير. وخرج اعلي ولم يعد. وتُخُطّف سيدي!