قد يستدعيني بعض الأشياء من حين لآخر للكتابة بألم ومرارة، ذلك الألم الذي يتجدد بطاقة مزودة ومتجددة بالإعلام المرئي والمسموع والمقروء...!!
ومع كل برنامج مهما كان غرضه يطل من خلاله بعض أصحاب ثقافة الحفظ.. ثقافة الحواشي والمتون.. ثقافة اللاجديد.. ثقافة التلقين ,ليؤكدوا على دونية النساء وخطيئتهن....!!!!!
قد يكون الأمر مستساغا ومقبولا إذا كان صاحب الإطلالة البهية فقيه تقليدي خريج محظرة اعتمد منهجها التعليمي على حواشي ومختصرات فقه الانحطاط، أما إذا كان صاحب الإطلالة أستاذ جامعي دكتور متخصص في الفلسفة والفكر الإسلامي، خريج إحدى الجامعات التونسية المتنورة، فإن القضية ستكون أكثر فظاعة ومرارة، الشيء الذي يجعل المتابع للبرنامج يصاب بدوار الألم على واقعنا الاجتاعي والفكري ...
كلماتي هذه المرة سترسم خطواتها نحو أستاذ أجله وأحترمه فهو في حكم أستاذي رغم الزمالة الحالية ، ففي الأيام التي كنت فيها طالبة بكلية الآداب كان هو يومئذ من ألمع أساتذة الكلية وأكثرهم تميزا قبل أن يصاب بمس طائف من ثقافة الحواشي والمرويات،إنه الدكتور سيدي الأمين بن ناصر الذي أطل علينا منذ ثلاث سنوات "فقيها" و"مرشدا" و"داعية "بل وحافظة للتراث في قناة الموريتانية، المقدم هذه الأيام برناج :" نوافذ على الوحي" يوميا على الموريتاينة، هذا البرنامج الذي نحن بحاجة لمثله لفهم الوحي وتجديد الرؤية الفقهية المستنبطة من كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،إذ نحن بحاجة فقط للإرتباط بالنص القرآني دون مزايدة ودون الدخول في متاهات التفسير الإسرائلي.
فيلسوفنا الجديد لم تكلف نفسك عناء البحث في أفنية تلك النوافذ للولوج إلى عمق النص بل اكتفيت بالتقديم الحرفي لما لذ وطاب من تفسير الطبري(ت310هـ) لتثبت أن المرأة ثالث ثلاثة: الحية والشيطان، وأنها عدوللرجل وأنها مصدر الشر كله...
وقد كان الإمام الطبري أمينا في تفسيره عندما كان ينقل شفهيا عن طريق التواتر رواية وهب بن منبه ( يهدوي دخل الإسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه)(ت110هـ) .
فعندما نرجع إلى تفسير"جامع البيان عن تأويل آي القرآن" للإمام الطبري طباعة الدار العلمية بيروت في صفحات ثلاث مائة ونيف سنجد القصة كاملة، قصة خروج البشرية من الجنة – كما رواها وهب بن منبه لا كما أوردها القرآن الكريم - بسبب حواء التي فرضت على آدم أكل الشجرة المحرمة، عكس الذي ورد في القرآن الكريم في سورتين من القرآن هما: سورة البقرة وسورة طه، ففي الإجمال شملهما القرآن بقوله تعالى في سورة البقرة: " فازلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه" وفي التفصيل الصريح خص آدم عليه السلام بقوله في سورة طه:" وعصى آدم ربه فغوى" .
هذا هو القرآن لكن لوهب بن منبه قصة أخرى تجرّم حواء لتصل إلى نتيجة مفادها أن المرأة ناقصة وإحبولة الشيطان وصاحبة مآمرة كبرى على البشرية، كما تبنى ذلك الفقه الذكوري، ورّوج له أستاذنا عبر شاشة الموريتانية مستهلا بذلك العشر الأواخر من شهر القرآن، حينما استنتج – دون كثير عناء – بصيغة تقريرية أن المرأة هي أصل البلاء...!!!!!!!!!!!
لقد ظل التفسير الإسرائيلي هاجسا عند نخبة المفسرين والفقهاء طيلة القرون الهجرية الأولى قبل عصر التدوين الذي خضعت عملية تأسيسه لمزج تلك الثقافة ومروياتها بعملية التدوين، وقد كان ذلك راجعا لعدة أساب منها دخول شخصيات وازنة من اليهود في الإسلام , يقول أحد الباحثين المعاصرين:" أقطاب الروايات الإسرائيلية - يعني رموز هذه الحركة في الموروث الإسرائيلي- الأول ّعبد الله بن سلام الثاني كعب الأحبار الثالث وهب بن منبه الرابع جريح، هؤلاء همأقطاب التراث أو الموروث الإسرائيلي الذين نقلواإلينا تراث الإسرائيليات من صدق وكذب وخرافات وشعوذة وسحر و و…".
فرغم حرص المفسرين والفقهاء على تنقية الدين مما علق به من شوائب التثاقف والاحتكاك والتأثر بثقافة الجيران وإحياء الثقافة الوثنية تجاه الأنوثة ، فإن التفسير والفقه المتعلقان بالمرأة ظلا قيد عنان المواقف الذكورية مع غياب تام لأي تمثيل للنساء في عملية التأسيس المعرفي خلال قرون التدوين: الثالث والرابع للهجرة...!!!
الدكتور الفيلسوف الأستاذ الجامعي الذي أصبح بفعل فاعل مفسرا للقرآن قد
جنح بفكره هذه المرة إلى ثقافة عصور الأنحطاط حين قادته تلك الرحلة نحو تراث اليهود، حيث قال بصريح عبارته لا عبارة القرآن:" حواء هي التي أغوت آدم بأكل الشجرة" وأضاف مستعيرا من ثقافة الأجداد:" إن المرأة ضعيفة بطبعها مرتع للشيطان " ولم يكلف نفسه عناء تحليل تلك الحالة المزمنة والفطرية في المرأة وهو الفيلسوف والمفكر القادم من جامعات الحرية والتنوير العربي منبت طاهر حداد والشابي ...!!!
ولم يكتف أستاذنا الجليل حيث أضاف:" وعندما خرجوا من الجنة أصبحت المرأة عدو الرجل ذلك ما يعنيه قوله تعالى: بعضكم لبعض عدو". في هذا السياق مجملا قصة الهبوط والعداوة يوضح محمد رشيد رضا في تفسير المنار طبع :الهيئة المصرية للكتاب:"قال - تعالى - : ( فأزلهما الشيطان عنها ) أي حولهما وزحزحهما عن الجنة ، أو حملهما على الزلة بسبب الشجرة ، والشيطان : إبليس الذي لم يسجد ولم يخضع ، وقد وسوس لهما بما ذكر في سورتي الأعراف وطه حتى أوقعهما في الزلل وحملهما على الأكل من الشجرة فأكلا ( فأخرجهما مما كانا فيه ) أي من ذلك المكان أو النعيم الذي كانا فيه ، فكان الذنب متصلا بالعقوبة اتصال السبب بالمسبب ، ثم بين الله - تعالى - كيفية الإخراج بقوله : ( وقلنا اهبطوا ) يعني آدم وزوجه وإبليس ، فلا حاجة لتقدير إرادة ذرية آدم بالجمع كما فعل مفسرنا ( الجلال ) فإن العداوة في قوله - عز وجل - : ( بعضكم لبعض عدو ) تنافي هذا التقدير فإن العداوة بين الإنسان والشيطان لا بين الإنسان وذريته ".
نستخلص مما سبق أن الثقافة المحمّلة بأتربة تراث السلطة الذكورية قد هيمنت بقوة على البنية المعرفية للثقافة الإسلامية خلال فترة هامة ومفصلية من تاريخ وضع قواعد هذه البنية وفي ظروف ساسية ذات منزع أستبدادي وتشرذم طائفي أشتغل به المنشغلون بالحقل المعرفي عن لفتة علمية أمينة لنقل الموقف النبوي من عتق المرأة من رق المجتمع الوثني....!!!.
وفي الختام نستنتج -بكل مرارة - أن مشروع النهضة الذي حاول منذ القرن التاسع عشر روادها وضع لبنة تأسيس رؤية جديدة تستمد قوتها من نصوص القرآن والحديث الشريف قبل دنس شوائب الإسرايليات والتفسير المذهبي، قد أجهض حين بدأ تراث الأنحطاط يعيد استنساخ ذاته في عملية إحيائية صهوتها منابر الإعلام المرأي والمسموع والمقروء، ومهندسي تلك العملية فرسان الفقه وعشاق الظهور الإعلامي...!!!.
بقلم: د/ تربة بنت عمّار أستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة نواكشوط