وصف بعضهم النرجسية فقال إنها حالة مَرَضيَّة تصيب علية المجتمع و من أعراضها شعور السياسي بأنه الوحيد الذي يعرف الحقيقة والقادر على حل المشاكل، و المثقف بأنه حامل لواء المعارف بدون منازع.
و تعني النرجسية Narcissisme في أبسط و أدق تعريفاتها حب النفس،
هي اضطراب في الشخصية حيث تتميز بالغرور، والتعالي، والشعور بالأهمية ومحاولة الكسب ولو على حساب الآخرين. و تنسب هذه الكلمة إلى أسطورة يونانية ورد فيها أن "نركسوس Narcisse" كان آية في الجمال وقد عشق نفسه حتى الموت عندما رأى وجهه في الماء. و بهذا الوصف يكون النرجسي ذلك الشخص الذي يهتم كثيرا بمظهره وأناقته ويدقق كثيرا في اختيار ملابسه و لا يعنيه سوى الحالة التي يبدوعليها في عيون الآخرين وكيف يثير إعجابهم بحضوره و معرفته فيما يستفزه بشدة التجاهلُ من قبلهِم، ويحنقه النقد ولا يريد أن يسمع إلا المديح وكلمات الإعجاب.
كما يصاحب الشخصية النرجسية شعور غير عادي بالعظمة، يسيطر على صاحبها حب الذات وأهميتها، وأنه شخص نادر الوجود أو أنه من نوع خاص فريد لا يمكن أن يفهمه إلا خاصة الناس فينتظر من الآخرين احتراماً استثنائيا لشخصه وأفكاره، وهو استغلالي، ابتزازي وصولي يستفيد من مزايا الآخرين وظروفهم في تحقيق مصالحه الشخصية، وهو غيور، متمركز وصولي حول ذاته يستميت من أجل الحصول على المناصب لا لتحقيق ذاته وإنما لتحقيق أهدافه الشخصية.
وتغطّي "الأنا" على معظم كلام النرجسي؛ وحينما يكون الموضوع لا يتعلق به فلا يهتم به؛ وفي الغالب يعيد مدار الحديث لكي يحوم حوله من جديد. ويلاحظ أن نبرة صوته ترتفع حينما يتعلق الأمر بالحديث عن الذات وعن أوصافها وإنجازاتها وقدراتها؛ ثم يخبو صوته ويصاب بالخمول والوهن حينما يكون الحديث موضوعياً لا يتعلق به.
ويميل النرجسي نحو إعطاء قيمة عالية لأفعاله وأفضاله والبحث عن المثالية في آبائه أو بدائل آبائه من حيث المركز والعطاء.
و إنه من نافلة القول أن أكبر مصاب يقوض ساحة هذه البلاد، الثقافية و العلمية و الفكرية و العملية و يذرو كل مجهوداتها الهشة مع رياح الإدعائية الفارغة من أدنى قدر من التميز و الإبداع، هو الدرجة العالية لمستوى النرجسية المتغلغلة إلى النخاع و المهيمنة على الحواس إلى حد تضخم الأنا عند غالبية المنتسبين إليها، الغارقين في خمائلها من أعلى الهرم إلى قاعدته و الممسكين على إثر سطوة تأثيرها المسكر زمام الامور و الباسطين بجرأة سافرة أيديهم على كل مقاليد الكلم و القرار و مالئين كل فراغ لا يقبلون بل و يمنعون أن يحل فيه غيرهم من صنف الملتزمين و المؤمنين بتقاسم الأدوار و تكامل العطاء و بناء كل محاور الكيان لبقائه شامخا و متوازنا. و هم في ذلك كله المصابون بعزة بالنفس و بالغرور الأهوج البعيد عن كبرياء فرسان الكلمة الناضجة والفكر النير والأثر العلمي المحمود أصحاب التعالي عن منحط التناول و سقيم الخطاب و دنيء المآرب.
نعم إنها النرجسية الكاذبة الخاطئة التي عمت بلواها ساحة العطاء فقطعت أوصالها و شلت أوردتها و شرايينها حتى نضب معين الثقافة البناءة و انتشر الزيف و دب الخلاف و عم التسفيه و سيطر الخمول و عادت جاهلية المرابد المزيفة تنشر شعر الضياع و نثر نصوص الإسفاف لتغيض كل بحيرة حملت ذات يوم قطرات من علم أو أب أو إبداع.
كم أوداج تنتفخ عند عديد التظاهرات التي توصف بالثقافية أو العلمية أو الفنية و يراد لها ـوما هي كذلك ـ أن تقوم بتلك الأدوار و تعلوا أصوات أصحابها الخافتة في الصميم حتى لا يسمع إلا دوي أناهم المتضخمة و رجعها المهيمن على الفضاء المحيط؟
و كم تنافر و تغامز و تنابز و تنابذ و شجار جبان يترك بصماته المشينة المعيبة عند نهاية كل اختتام لمُبدَء شحيح رغم نص الختام المساير للنسق؟
إنه النشاز المعيب و المفارقة القاتلة الكبرى في ارض المليون شاعر، بلاد المنارة و الرباط، منطلق رحلات الحجيج، و دولة الجامعيين الذين تخرجوا بالدرجات العلا و في الصفوف الأولى من جامعات العالم حولنا حتى وصفوا بألمعيي الشعب الذكي. و يبقى السؤال المحرج أين وضعوا علمهم بعد هذا التتويج؟ و أية صروح شيدوا بهذه المعارف و بماذا أشعوا من المعارف التي أبهروا بها؟ إنها المفارقة العجيبة و السقوط بعد الارتفاع؟ ثم ما هو سبب كل هذه المفارقات العجيبة و التراجع المهين و الهفوات و السقطات في ضلالات الأنا السلبية؟
فإذا كان من سبب لكل ذلك فإنها النرجسية المقيدة التي لها دوافعها و أسبابها التاريخية الموغلة في القدم و حضورها الطافح في جلباب الحاضر رغم كل المساحيق و المظاهر بما كان يجب أن يكون بنزاهة فكرية مجردة السلوكَ الملائم لخوض معترك المرحلة بجدارة و اقتدار. و هو السلوك المتمدن الذي كان ليأخذ كل قوته من تنور العقل تسريبات العلم بمرتكزات جديدة تسهم في توازن النفس و نزاهة الفكر و حب الخير و العمل بتجسيده على أرض الواقع و من السعي إلى العدالة و المساواة و تقاسم الأدوار و تنمية القدرات سبيلا إلى العطاء و إرساء دعائم الحاضر القوي بما يضمن حمل صرح المستقبل المنظور.
و إذ كيف للنخبة بما هو قائم من واقع مرير، لا تنكره عين الغدر من رمد و لا فم النقد البناء من سقم، أن لا تستشعر خطورة السقوط في شراك النرجسية و الاكتفاء بما يتحقق لها من مآرب أنانية لا ترقى إلى شيء يذكر و لا تحجز لأصاحبها مكانا في سجل الخالدين و واضعي لبنة أو أكثر في صرح المستقبل، فإن واقعها لا يحمل لها أي اعتبار و لا يعير لها أي اهتمام بالرغم من شعور أفرادها، المتفرد في سوئه، بعظمتهم و جوهريتهم عند حضور أي موقف من المواقف التي تجمعهم و تجعلهم يلتحمون بغيرهم ممن كان مفترضا أن ينتفعوا و يحيوا بهم و يرتفعوا إلى مراقي العطاء و إنكار الذات الحميد للخلود في سجل البناة و عملا بقول الله عزّ وجلّ: (العزُّ إزاري، والكبرياءُ ردائي، فمن نازعني فيهما عذّبته(.
متى ستقدر النخب حاجتها إلى مراجعة سلوكها و توطين وعيها في محله و ضرورة أن تتعامل مع قضايا الأمة و شأن توجيهها بوصفها مسئوليتها في المقام الأول؟
وهل تكون أيضا هذه النخب على بينة من نواقصها الصارخة و أنها بحاجة ماسة إلى أن تعيد النظر في مستوى ذلك الوعي المطلوب بإلحاح فعلا و تراجع أنفسها علما بوجود شعورها و هي ترى أنها تعايش ممارسات جماعية أو فردية و تدرك أنها ممارسات خاطئة مرشحة بكل ما تنضح به من اختلالات إلى أن تنعكس ضررا بالغا و عاما على مجتمع هي وحدها النخبة محركه و وقوده ؟