لا شك أن سر تقدم البلدان و توازنها، في حالات اليسر و استثناءات العسر، يكمن في قدرتها على التخطيط العلمي الممنهج و القدرة على الاستشراف المحاط بأسباب النجاح من رصد متقن للأهداف و دقة في الحسابات و بعد النظر و الحنكة السياسية المصاحبة.
و إنه مما لا شك فيه أيضا - سواء حصل ذلك
عن وعي و إدراك أو لم يكن - أن من أسباب تعثر كل السياسات التنموية في هذه البلاد منذ استقلالها و غياب أدنى أثر لبنية صناعية أو اقتصادية من أية درجة كانت يكمن بالمقام الأول في غياب التخطيط العلمي و انعدام الترشيد المنطقي للثروات و المقدرات و الذي كان مفروضا أن يكون شاملا كل المحاور و مغطيا كل الأصعدة و الجبهات و مستندا، فيما كان يجب أن يكون استند إليه إلى:
· بناء و غرس مفهوم الدولة في الأذهان مبدأ راسخا و منطلقا معلوما و سلوكا ثابتا في القيم الجمهورية النافذة تجليا و عملا و طلاقا مع غير ذلك من رواسب اللادولة و حكم العشائرية و الاثنية الطبقيتين الموروثتين تأثيرات سلبية عن مرحلة "السيبة" التي تتوطن الأحشاء،
· اعتماد الإرادة الوطنية المتولدة عن الوعي الثاقب و من الشجاعة و الحزم الملازمين و الصارمة العقائدية الصادقة و الإصرار الذي لا يلين على تجسيد ضرورة قيام هذا التخطيط واقعا ناطقا في ميدان معترك الرسوخ و العدالة و التشييد،
· تعيين جهة سامية مكلفة بالتخطيط تفكيرا و دراسة و إعدادا و قياما و ترجمة عملية على أرض الواقع لمعطى التحول الإيجابي الذي مازال غائبا و ذلك باستقلالية تامة و بوسائل مناسبة تقتطع ذاتيا من المقدرات العامة بعيدا عن أي مؤثر داخلي أو خارجي،
· اعتماد هذه الجهة لمنهج الواقعية أولا إذ لابد أن توضع بأسرع ما يكون خطة تعتمدها على أساس من المعرفة المنطقية بصورة المجتمع والحقائق الاقتصادية القائمة، وأن تحدد الغايات لتتلاءم مع حقيقة هذا الوضع القائم وبالتالي يمكن اختيار الأساليب المناسبة للوصول إلى الأهداف المنشودة .و اعتماد الشمولية ثانيا حيث يجب أن تحيط الخطة بأغلب المتغيرات الأساسية التي من شأنها العمل على اعتبار تجديد الإنتاج و تغطي كل المصادر والإمكانات الرئيسة مادية كانت أم بشرية لأن الاقتصاد الوطني ككل مترابط عضوياً بحيث لا يمكن تخطيط جزء منه وإهمال الجزء الآخر. و قد لا يمكن الوصول إلى الشمولية بخطوة واحدة وإنما ينبغي الوصول إليها بالتخطيط المتدرج عن طريق وضع إستراتيجية تعبر عن الأهداف بعيدة المدى للمجتمع و إتباعها خطط تنموية مرحلية ذات أبعاد زمنية متوسطة تنبثق عنها الخطط السنوية قصيرة المدى.
· إخضاع سياسات كل القطاعات الحيوية للتوجيهات الصادرة عن هذه الجهة و اعتبار المعطيات الواردة منها منطلقا و مرجعا لدقتها و استنادها بمعرفة القيمين عليها إلى واقع مقدرات البلد البشرية و خيراته و ثرواته الطبيعية و سياسة الإطلاع و الإحاطة بها و مقتضيات استخراجها و و توجيه مدخلاتها و عدد الساكنة و رصد احتياجاتها التنموية في الصعود و الهبوط و التقدير و الضبط و الاستشراف المنهجي العلمي،
· ترسيخ هذه الجهة كحاضنة وحافظة للمال العام الذي تنهشه أنياب الفوضى و رأس مالية عديمة التفكير و غائبة الأسلوبية من منطلق أصوله إلى غاية صرفه فى كل أوجه التنمية المستدامة هدفا معلوما و غاية بالغة و صك الأبواب أمام مرتزقة القبلية الظالمة أصحاب المال السهل و النفوذ المتقاسم و طبقية الإثنيات الجائرة و المبتزين الحقوقيين و الرحل السياسيين و أهل التزلف و التملق و النفاق السياسي الجائرين.
و لأن التنمية المستدامة تعرف بأنها تلك التنمية التي تهيئ للجيل الحاضر الأساسية والمشروعية دون الإخلال بقدرة المحيط الطبيعي، فإنها لا بد تهيئ للأجيال التالية متطلباتها أي استجابة التنمية لحاجات الحاضر، دون مساومة على قدرة الأجيال المقبلة على الوفاء بحاجاتها.
وفي العصر الراهن أصبـح بمقـدور الدولة الواعية، و بفضل تقدم العلوم اﻟﻤﺨتلفة ومنها علم الاقتصـاد والـتـخـطـيـط و وسـائـل جـمـع تحليل المعلومات اللازمة لهما، أن تخطط على نطـاق اﻟﻤﺠـتـمـع بأسره وذلك بأن تتصور مقدما الكيفية التي سيكون عليها الكيان الاقتصادي الاجتماعي و لمصلحة من و ترسم ذلك التصور المفصل بالأرقام في خطط شـامـلـة تضـمـنـهـا كـذلـك مـجـمـوعـة الـوسـائـل والإجراءات الاقتصادية وغير الاقتـصـاديـة الـلازمـة لـلـوصـول إلـى غـايـاتـه اﻟﻤﺨططة.
لا بد و لأقصى ضرورات التنمية أن تباشر الدولة المركزية، حاضنة الجميع، و بكل استقلالية عن المزاج البشري من أي نوع كان أو أي موقع مسؤولية أو موضع قوة فيها، باستعراض سلسلة للحسابات ربعية أو أدنى أو أكثر للدولة صورة شاملة عن التطورات الاقتصادية الحاصلة في البلاد، والمتغيرات الرئيسية للاقتصاد الكلي مثل الناتج المحلي الإجمالي والدخل القومي والادخار.. و ما إلى ذلك، والتي تعتبر من بنود توازن الحسابات المعنية، كما تتم مناقشتها في الفقرات التالية، و يعرض الجدول الأول سلسلة الحسابات الربعية أو غيرها بما يتفق عليه و تقديرات الدخل القومي والادخار لكل مراحل السنة وبمقارنة على أساس المتقدمين وسنويا لتقديرات كل الفصول من العام المنصرم.
كما لا بد من وضع رؤية اقتصادية للتنمية إن كانت هناك رؤية قيادة وحكومة ورؤية شعب ليتشارك الجميع في صياغتها لما فيه صالح الوطن لأنه بدون الرؤية يفقد بوصلته حيث يحتاج إليها لتكون بمثابة خارطة طريق لتعظيم الاستفادة من إمكانياته وطنا يسع الجميع رغم أنه يواجه جبالا من التحديات لا تخفى على مبصر.
و فيما لا شك أن الرؤية الواضحة والتخطيط السليم هما أساس تقدم الدول فإن ثروات موريتانيا لم تكتشف بعد وكذلك إمكانياتها، و إن وجود رؤية واضحة سيؤدي أولا إلى إيجاد بارقة أمل تجمع الشعب بكل مكوناته و شرائحه وتجعله مقتنعا بتحمل الصعاب و تجاوز العديد من محنه كما أنه سيسهم في تخطيط المستقبل وتصحيح المسار، بالإضافة إلى التعرف على إمكانيات البلد الحقيقية وقدرته التنافسية، مع تحديد أدوار الكيانات الفاعلة في عملية التنمية وتمكين كل الأطراف من المشاركة والمتابعة والمراقبة والمحاسبة.
إن وجود إطار عام متكامل الرؤية أمر لابد منه علما بأن عملية التنمية عملية متكاملة يتشابك فيها الاقتصاد مع العدالة الاجتماعية و يتقاطع مع النظام السياسي والأمن الوطني وكفاءة المؤسسات التي تحمل الهم التنموي و تسخر الطاقات من أجل تعميم نفعها و ترفع من جدوائية سياسات الاستثمار والسياسات المالية والنقدية.
و لا شك أن أهم قواعد عملية التنمية هي قيام نظام سياسي ديمقراطي سليم مبني على التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات و دمج كل فئات وتيارات المجتمع طالما آمنت بوطنيتها واحترام مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة والمساواة وسيادة القانون، ومدنية الدولة ودعم اللا مركزية وتمكين المجتمع المحلي من صنع وتنفيذ القرار وتقوية دور المؤسسات و كل طيف المجتمع المدني في ظل وجود الأمن و دعما للاستقرار السياسي لدولة ذات سيادة وهيبة.
و إنها للرؤية التي لن تتحقق إلا من خلال استغلال كافة الموارد الاقتصادية والبشرية بوجود برنامج واضح يتسق ويلتصق فيه التخطيط بالتنمية، بالإضافة إلى تشجيع الاستثمار وخلق بيئة أعمال جاذبة.
و إن منهج النمو الذي يحتوي الجميع لا يتحقق هو كذلك إلا بسيادة السلام الإجتماعي الذي يحمي و يرفع من شأن الطبقات المهمشة و كل الشرائح و المتوسطة من ناحية و يزيل الفقر من هذه الدولة بتضييق الفوارق الشاسعة بين دخول الأفراد وبين الأغنياء والفقراء وبعلاج حقيقي لمشكلة مناطق الوطن التي تعيش حالة تهميش و كذلك القرى النائية والفقيرة والمدن المحرومة، وبالحفاظ على حقوق الأجيال القادمة من خلال التوازن بين أولويات التنمية والحفاظ على الثروات لضمان المستقبل.
و يجب أن تستهدف التنمية البشرية و الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في نهاية المطاف الإنسان الموريتاني، لأنه الهدف والغاية من أية استراتيجيات وخطط وبرامج كلية وقطاعية. و لو صح التخطيط بهذا المفهوم و تلك الرؤية ثم آتى أكله لبرز مواطن موريتاني جديد ذو شخصية متكاملة، معتز بذاته مستنير بالإشعاع العلمي من حوله، مثقف ومبدع، مسؤول وقابل للتعددية واختلاف الفكر، يحترم الاختلاف، فخور بوطنه، شغوف ببنائه، قادر على التعامل تنافسيا مع كل الكيانات المحيطة به إقليمية ودولية.