لقد أثار مؤتمر القدس الأول الذي نظمه الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني في العاصمة نواكشوط خلال الأيام 24، 25، 26 من شهر يوليو جدلا كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي, ولعل النقطة التي أثارت جدلا أكثر من غيرها هي تلك المتعلقة بجمع التبرعات لأهلنا في غزة ،
ولقد انقسم المدونون حول هذه القضية إلى أربع فئات.
الفئة الأولى: مدونون يتعاطفون مع قضايا بلدهم، ويشاركون في حملات التبرع لصالح فقراء بلدهم، ويتعاطفون في الوقت نفسه مع قضايا الأشقاء، ويشاركون في حملات التبرع التي تنظم من حين لآخر لصالح بعض الأشقاء.هذه الفئة هي من خيرة المدونين، وبطبيعة الحال فإنه حتى في داخل هذه الفئة فإنه يمكننا أن نلاحظ اختلافا وتباينا من حيث نسبة الوقت والجهد المخصص للوطن وذلك المخصص للأشقاء. فقد تجد في هذه الفئة مدونا يخصص النسبة الأكبر من تعاطفه ومن تفاعله لقضايا الأشقاء على حساب قضايا الوطن، وفي ذلك خلل يجب إصلاحه. أعتقد أن النسبة الأمثل هي أن نخصص 80% من تعاطفنا وتفاعلنا وتبرعنا لقضايا الوطن، و20% الباقية نخصصها للأشقاء.
الفئة الثانية: مدونون يتعاطفون بحماس مع قضايا الوطن، ويشاركون في الحملات الهادفة لجمع التبرعات لفقراء الوطن، ولكنهم يتجاهلون وبشكل كامل قضايا الأشقاء، وفي هذه الفئة يمكن أن تجد مدونا لم يكتب منشورا واحدا عن فلسطين، ولا عما يحدث من قتل وخراب في سوريا والعراق واليمن ومصر... هذه الطائفة من المدونين ورغم تقصيرها غير المبرر في حق الأشقاء، إلا أنها ومع ذلك على خير، وهي تستحق أن يتم تنبيهها على تقصيرها في حق الأشقاء، ولكن ذلك التنبيه يجب أن يتم بطريقة إيجابية، وعلى نحو : نِعْمَ المدون فلان لو كان يتبرع بشيء من وقته وماله لإخوته في فلسطين، وفي بقية البلدان العربية والإسلامية المنكوبة.
الفئة الثالثة: وهي تمثل طائفة من المدونين تتعاطف وبحماس مع قضايا الأشقاء، ولكنها تتجاهل وبشكل كامل قضايا الوطن.هذه الطائفة تعاني من خلل كبير في ترتيب الأولويات، وهي بفعلها هذا قد تضر بقضايا الأشقاء، لأن سلوكها هذا سيجعل البعض يتخذ ردة فعل سلبية اتجاه قضايا الأشقاء. وفي هذه الفئة قد تجد مدونا ينشط في الأيام التي تعيش فيها غزة حربا، ثم يختفي نهائيا عن الأنظار إلى أن يحدث هجوم جديد على غزة، أو على أي بلد إسلامي آخر فحينها يطل من جديد. يمكن أن يموت العشرات من الجنود الموريتانيين في انقلاب شاحنة عسكرية ومع ذلك فلا يكترث ذلك المدون بتلك الفاجعة. إنه لا يولي أي اهتمام لما يحدث داخل الوطن، ولكنه متابع جيد لتفاصيل ما يحدث في بعض البلدان الشقيقة. وفي هذه الفئة قد تجد مدونا يستيقظ من نومه يوم استشهاد صدام حسين، أو يوم ذكرى ثورة 23 من يوليو، فيخلد تلك الذكرى بحماس وبنشاط كبير، وذلك من قبل أن يخلد من جديد لنوم طويل قد يستمر لعام كامل، ولا يستيقظ منه إلا مع تجدد ذكرى استشهاد صدام حسين، أو مع تجدد ذكرى ثورة 23 من يوليو، أو انقلاب 23 من يوليو حسب قراءة إيديولوجية أخرى. تحضرني الآن أسماء عديدة يمكنني أن أقدمها لكم كأمثلة حية تؤكد صحة هذا الكلام.
الفئة الرابعة : طائفة من المدونين لا تتفاعل مع قضايا الوطن، ولا مع قضايا الأشقاء، ولا شغل لها إلا التهجم على من أظهر تعاطفا مع قضايا الوطن أو أظهر تعاطفا مع قضايا الأشقاء. فإن أظهر المتعاطف تعاطفا مع قضايا الوطن انتقدوا عليه ذلك، وذكروه بهموم الأشقاء، وإن أظهر تعاطفا مع قضايا الأشقاء انتقدوه على ذلك وذكروه بهموم الوطن وبأنها أولى من غيرها.هذه الطائفة من المدونين لا تفعل خيرا، ولا تترك الآخرين يفعلون خيرا. هذه الطائفة تسمى بالمثبطين، ولا خير فيها.
لقد زاد من حدة الخلاف حول قضية جمع التبرعات لغزة، هو أن حملة التبرع لغزة في العام الماضي كانت فد تصادفت مع كارثة أمبود . أما في هذا العام فقد تصادفت مع عودة أزمة الحمالة إلى الظهور من جديد، ولذلك فقد وجد البعض ضالته في هذا التزامن.
إنه علينا أن نتذكر دائما بأن صفحاتنا وكتاباتنا وتفاعلاتنا وتبرعاتنا يمكن أن تسع الجميع، ويمكن أن نخصص منها جزءا كبيرا للوطن، وجزءا آخر غير يسير للأشقاء المنكوبين أينما كانوا.
وعلى من يتفاعل ويتبرع للفقراء الموريتانيين أن يعلم بأن ذلك لا يسقط عنه حقوق الأشقاء المسلمين الذين يتعرضون للقتل في مشارق الأرض وفي مغاربها. وعلى من يتفاعل ويتبرع للأشقاء في فلسطين أو في غيرها أن يعلم بأن ذلك لا يسقط عنه أبدا حق أخ في الدين وفي الوطن يعاني من الجوع أو من الفقر أو من العطش أو من المرض، ولا يجد من يتبرع له، لا من الأشقاء من خارج الحدود، ولا من الأشقاء الذين يجمعهم به الوطن الواحد.
وبطبيعة الحال فإن الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني الذي تولى تنظيم مؤتمر القدس الأول، والذي تولى أيضا جمع التبرعات لغزة، لم يسلم هو أيضا من النقاش الدائر، فهناك من انتقد الرباط بدعوى أنه لم يجمع يوما أي تبرعات لفقراء الوطن، ولا شك أن في ذلك الانتقاد ظلما كبيرا. فالرباط هو منظمة غير حكومية قد تخصصت وتفرغت لنصرة الشعب الفلسطيني، وهو بذلك قد تولى نيابة عن كل الموريتانيين واجبا من واجبات نصرة الأشقاء، ولذلك فإنه لا يمكننا أن ننتقد الرباط بسبب أنه لم يجمع التبرعات لأمبود، كما أنه لا يمكننا أن نلوم مثلا جمعية الإرادة التي كانت قد نظمت قافلة لإغاثة أمبود على أنها لم تنظم حملة موازية لجمع التبرعات لأهل غزة.
إنه لا يحق لنا أن ننتقد الرباط إذا ما قصر أو تجاهل بعض الكوارث الوطنية، ولكن في المقابل فإنه يحق لنا أن ننتقده وبقوة إذا ما أساء التصرف في تسيير التبرعات التي يتحصل عليها، أو إذا ما أخفق في إيصالها وفي توزيعها توزيعا عادلا على المتضررين في فلسطين.
يبقى أن أشير في الأخير ـ وهذا كلام موجه للرباط ولغيره من الفاعلين في المجتمع المدني ـ بأن هناك أيضا طائفة من المهتمين بالشأن العام كانت قد تخصصت في التدوين وفي النشر في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الطائفة قد أصبح لها التأثير القوي في تشكل وصناعة الرأي العام، ولذلك فلم يعد من المناسب تجاهلها. لقد آن الأوان لأن يُعترف بالمدونين، وأن تتم دعوتهم بصفتهم مدونين لا بصفة أخرى لكل الأنشطة التي تدعى لها الصحافة والشعراء وأهل السياسة والثقافة.
فأن يحضر عشرة من مشاهير المدونين الموريتانيين لنشاط ما، وأن يلتقط أولئك العشرة صورا لهم من داخل ذلك النشاط، وأن يتبعوا تلك الصور بمناشير تتحدث عن ذلك النشاط، فإن ذلك قد يأتي بدعاية وبتسويق للنشاط لا يستطيع أن يأتي بها من جرت العادة بدعوتهم لمثل تلك الأنشطة من صحفيين وشعراء سياسيين. إن لكل زمان رجاله، ويبدو أنه قد أظلنا زمان المدونين ونشطاء "الفيسبوك"، ولذلك فعلى جميع المشتغلين بالشأن العام أن يدركوا تلك الحقيقة، وأن يتعاملوا معها بما يناسب.
حفظ الله موريتانيا..