عاش العالم أسبوعين على زغاريد النصر التي ملأت الأفق عبر التصريحات المهيبة والمنمقة للعالمين الحر و"الإرهابي" بالمفهوم الغربي، في نفس الوقت، وعبر هذا الاتفاق النووي وكأنه نصر للبشرية أو كأننا صرنا أمام خطوط توافق عميقة من دون حرب. فهل كانت إيران تحبس أنفاس
الغرب بهذه الدرجة؟ أم هل أن مفعول الحصار صار يشكل تهديدا لإيران "الشيعية "؟ أم أن الموضوع بهرجة إعلامية اجتازت فيه الدعاية الحدود المعهودة، تاما مثل ما صور الإعلام الغربي بحماس شرعية اقتلاع نيرويغا من سلطة بلده ومحاكمته في أمريكا، أو مثل ما رافق تدمير الدول العربية بلا هوادة؟.. لقد ظل الإعلام الغربي منحازا لكل سياسات بلدانه الشريرة بل وغير أخلاقي وبدون كبرياء.
لم تتضمن بنود الاتفاق (التي حشد لها التصفيق وتم نشرها عبر الأثير كجوهرة إعلامية سقطت من السماء ) أي نجاح يعكس حقيقة، لا مجازا، ذلك النصر الذي تغزل عليه الكل. أو قل، ليست باهرة على الأقل، ومع ذلك ظل الإتفاق نفسه ساحرا بالنسبة لكل طرف وللصحافة وكأنه حلٌ في محله تماما. إنه اتفاق مزين بغرابة: إيران وحدها في طرف، والعالم الآخر في طرف، وهذا هو أبرز مظهر للنجاح.
لم يولد الإتفاق بضغط من طرف واحد ليشكل ذلك نجاحا باهرا للغرب، بل من رحم عدم الإستقرار المرجح أن يتسع ليشمل مساحات شاسعة وضد مشيئة الغرب. إيران لاعب فاعل ومستقل، وذلك أحد عناصر الإزعاج الحالي الذي ينفرد الغرب بالشعور به دون اسرائيل. وربما يكون هذا هو محرك الإتفاق وهو أيضا سبب موقف إسرائيل السلبي منه. الإتفاق أخذ عنوان "النووي" لكي لا يخبو اهتمام الغرب بربيبته في المنطقة التي شبت عن الطوق وإن كانت لا تمل من الدلال، ولأنها متوجسة ورعديدة وذلك طبيعة المحتل دائما. لكنها محقة في العمق، فإيران امتلكت السلاح النووي شاء من شاء وأبى من أبى، وهذا لم يعد سرا من الناحية العلمية على الأقل. ولذلك شكل الاتفاق مظهرا فلكلوريا شبيها إلى حد ما بترتيبات تأخير الإعلان عن إيران نووية، وبالتالي ليس الاتفاق درءًا لخطرها بالنسبة لإسرائيل أبدا، وهذا هو أيضا عنصر الإزعاج في الموضوع. الخلاف بين الغرب وإسرائيل كبير بشأن مقاربة الشرق الأوسط ، فلا يوجد محرك حقيقي للاقتصاد أكبر من الفوضى، لكن الفوضى التي يتم التحكم فيها وتوجهيها من الدوائر والمصالح الغربية. فهناك نوعان من الإرهاب من المنظور الغربي. وهنا تجدر الإشارة إلى وقوف أمريكا ضد تعريف دولي للإرهاب لكي يظل للشيطان نص في الكتاب المقدس يفسره حسب هواه.
الإرهاب الفكري ـ وهو "ماساداه" ضحيتها هذه المرة الغرب وليس إسرائيل ـ ميدان "لرعب اصطناعي كبير" بواسطة الحركات السياسية أو الدينية حسب الظروف، وهو صنيعة الغرب من أجل خلق وتقويض توازنات معينة، وهو لا يشكل خطرا إلا في حالات نادرة، وبالشكل الذي يظل عدوا تحشد له القوة والمشاعر ومجالا واسعا للاستعراض ووقودا للصناعة ولشركات السلاح و الإعمار والخدمات، ولكي يكون جدوائيا لابد أن يستوعب مساحة وكثافة وموارد وفترة زمنية واسعة.
النوع الثاني هو الإرهاب "الردعي " : وهو ظهور أنظمة على أنقاض الفوضى، تحمل تطلعات شعوبها، تناهض التهميش والتبعية، أو على الأقل ينكشف الغبار عن دول عربية بعقيدة وفكر جديدين مبنييْن على مزيج من العلم والدين، تغذيه المرارة، قابل لأن يكون نسخا لإيران في عدة دول عربية، أو بناء حلف من المصالح الاقتصادية تغذيها الإيديولوجية الشرقية أو عالم ما بعد الغرب. وهذا خطر عميق، له جذور، تغطي الأنات الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل ، ويعني في الإستراتيجيا بناء قطبية جديدة مبنية عن الاستقلال عن الغرب بموارد عربية، وبعقول روسية وهندية وإيرانية، وباقتصاد صيني يشمل مجالا واسعا من جنوب إفريقيا باتجاه آمريكا اللاتينية و الروس والصين. وهذا المحور رأى النور سياسيا أثناء تصديه في الأمم المتحدة لتكرار تجربة ليبيا في سوريا 2013 . وهذا هو الذي يعنيه الغرب بالإرهاب بما هو إخلال بمعايير ومقاسات ظلت نموذجية لفترة طويلة بل أضحت قواعد تفيد سيطرة الغرب، لكن الخطورة التي يخفيها هو أن إيران ستكون نقطة إرتكاز في هذا النظام الجديد من خلال دورها في الوطن العربي ـ أكبر وأهم خريطة من الخيرات الطبيعية والأسواق الاستهلاكية ـ بفعل ووزنها الجديد فيه، أي بناء أنظمة في قلب المنطقة تعكس وتجسد الرؤية والأهداف والتجربة الإيرانية. صحيح أن ذلك يلازمه تناقض تاريخي بين الفرس والعرب، وبين الشيعة والسنة. وقد يحمل ارتدادات في المنطقة، فهو ليس وليد اليوم، بل في التاريخ وفي الطموح: قوميات وفكر وعقيدة مختلفين تماما. لكنه إحدي التجليات الساطعة لضعف جوهر النظام الغربي نفسه الذي لم يخلق البديل من نفسه عن غطرسته التي تجاوزت كل الحدود
فالأمة الجرمانية أو ألمانيا التي سمحت لنفسها أن تكون راكب عادي على العربة التي تجر الولايات المتحدة لتدمير عالمناوتكتفي بدفع ضريبة مغلظة لتلك التدخلات كانت صالحة لذلك الدور ، إنها تحاول التكفير عن مساهماتها تلك وتنظيف يديها بالعطف على السكان من خلال تمويلات ومشاريع للأهالي بلا فوائد، لكن غياب قوتها الوديعة في المعادلة الدولية التي فرضتها عليها نتائج الحرب العالمية الثانية فوت عليها أن تقود كتلة رحيمة في أووروبا في الأمم المتحدة وفي المحافل الدولية ،يركن إليه العالم الهارب من غطرسة أمريكا وبريطانيا وفرنسا " الغرب بمفهوم الشر ".ولهذا فإن الناس الهاربة من ألسنة اللهب والدمار تبحث عن أي ظل ولن يكون غربيا على الإطلاق.
لقد خلق الغرب الإرهاب في المجال السني فقط بعد المخاوف الكبيرة من سيطرة الشيعة الأمامية ومرجعيتها في "قم"، لكن هذه الصناعة ولدت مضاعفات؛ فقد التقت بعالم مفتوح على فوضى تحركها أطراف عديدة بمصالح مختلفة ومن دون تنسيق. إنه وضع يوشك أن يخرج عن السيطرة ومن ثم الهدف الذي جسده الشعار الإمبريالي الفاضح: "الفوضى الخلاقة" التي شكلت إحدى سقطات النظام الأمريكي على لسان وزيرة الخارجية رايس، تماما مثل "الحرب الصليبية" على لسان بوش " إنهم أقنان الشر" إنه نظام ذو أهداف مزدوجة: الحفاظ على المصالح الاقتصادية بصفة دائمة، ووقف تقدم عدو جديد.
لقد انقلب الوضع على نحو مهدد، فقد تم إضعاف شرعية الفكر والحكومات السنية من خلال أسلوب الحركات المتطرفة سواء في دول قائمة منها، كما في الجزائر والمغرب وتونس ومصر، أو في دول فاشلة أو شبه فاشلة من خلال أسلوب القتل في العراق واليمن وسوريا وليبيا من جهة، ومن جهة ثانية بواسطة دور الأنظمة العربية في الأحداث الدائرة في منطقتها مثل مصر والخليج (قطر والإمارات بصف صريحة) وتصويب مدافعها وطاقاتها للتدخل في البلدان العربية بدل صد العدو الإسرائيلي. وهذا طبعا مع الفشل في تحييد الخط الشيعي من الواجهة، فقد صوره الإعلام بأنه العدو التقليدي للغرب وإسرائيل، وقد جعله الواقع في موقع الصمود أمام الاحتلال خاصة بعد سقوط حلفائه من الأنظمة السنية بفعل التدخل الغربي نفسه، وبدلا من أن تتراجع شعبيته في العالم العربي، والسني منه بالخصوص، صارت أكثر حماسا واتساعا من ذي قبل مع ما يلازمه من تفوق لإيران طبعا. لقد فشل الغرب مرة أخرى في التخطيط والسيطرة على كل خيوط اللعبة، وهكذا جاء الخوف العارم من مآلات الوضع: خروج الحركات المتطرفة عن نطاق السيطرة، وعدم استقرار الأنظمة. وهو الذي يفتح المجال لوضع آخر كما تؤكده خريطة الأحداث؛ فلكأن العالم العربي يقف على رمال متحركة، فالتطرف يتحرك خببا في الجزائر وإن لم يكن متسارعا وضخما، لكنه في أماكن متفرقة وعديدة، مما يعني أنه بحجم الخطر إذا ما أخذنا بالحسبان منطقة الجوار: الحدود الواسعة على الصحراء، وعلى ليبيا الفاشلة ومالي شبه الفاشلة (مع ما يقدمه الغرب من مسكنات) وموريتانيا التي يتهددها شبح عدم الاستقرار بفعل الأنظمة العسكرية المغفلة التي تفرض نفسها على البلد منذ ثلاثة عقود، مع أن النظام السياسي الجزائري نفسه ـ شبه المحنط بمنعه للتناوب ـ يتجه نحو مرحلة حاسمة وخطيرة من حياته. كما تراجعت الحركات السياسية المتطرفة في فكرة الاستقرار والنجاح في تونس، بينما انفجرت ليبيا عن طاقات هائلة من الفشل والقتل والانقسام، وستظل كذلك لبعض الوقت، أو سيكون صعب عليها أن تعود وفق النموذج الغربي. ويندمج الوضع المصري في السياق مخصبا الوضع (بما هي بهو القوة العربية وفناؤها في السلم وفي الحرب). فمصر هي الأكبر من ناحية الفسيفساء الإيديولوجية والسياسية والدينية، وشرعية نظامها الحالي أضعف من أن تستوعب تناقضات ورهانات المرحلة الهائلة ، بل هو غبي بما يكفي لزيادة التعقيدات، خاصة أن الحركات الإسلامية في مصر في طريقها إلى تغيير مقاربة التعايش بعد ما سلب منها حقها في السلطة دون منحها أي بديل، فلم تعد سلمية على طول الخط ولا تقليدية ولا مجموعة من الدراويش، بل قطاع عريض من الطاقات والمواهب الشابة والناجحة في مجالات الحياة. وليست عملية اغتيال النائب العام إلا توقيعا على هامش الأحداث وتحذيرا من المضي في سياسة النظام التي لا توافق عليها ضمن عدد كبير من الشعب المصري، وهو يعني في الأساس ظهور خطوط انكسار دائمة يتم توكيدها يوما بعد يوم ويغذيها الطموح لاعتلاء السلطة الذي صار ممكنا.
تجليات الوضع المزدحمة بخيارات عدم الاستقرار لا تتوقف هنا، بل ويرجح الوضع منطقة الخليج إلى الخروج من قمقم الاستقرار، ففي السعودية ـ وعندما نقول السعودية نعني في النهاية مجموع دول الخليج: تحالف في التاريخ والجغرافيا واندماج في الأوضاع ـ خبت بريق وعدد المطاوعين في الشارع بسبب ضعف جهود إرشاد شيوخ المذهب لحساب الإسلام المتطرف الذي يؤول المذهب الوهابي تأويلا سيئا، وعلى أنهم يمتلكون العقيدة الصحيحة ومسؤولين عن تجديد الدين لكافة الناس مما ظل يستهوي الشباب نحو تصور المراحل الأولى للإسلام ونسخها على واقع اليوم. إضافة إلى تسارع وتيرة استخدام وسائط التواصل الاجتماعي في المجال السياسي حيث بدأ هامش المحاذير ينكمش. وهنا يبقى الرهان معقودا على دور الحكومات هناك، مع أنها تعاسر أوضاعا خاصة تتشابك فيها المشاكل التقليدية مع الأحداث والمصالح المعقدة. لقد التقت هذه الأوضاع والأحداث مع الفوضى في العراق وسوريا وليبيا واليمن والبحرين ولبنان وفلسطين، وخرجت التنظيمات عن السيطرة، وتدخل فاعلون جدد بقوة مثل تركيا التي تجاوزت مشكل التخلف وقد حصدت المقعد 16 على خريطة نادي الأغنياء العشرين، وهي تروج لنموذجها في العالم متكئة على 400 سنة من حكم المسلمين في ثلاث قارات، وهي تنظر لنفسها انطلاقا من هذا البعد وليست بلدا صغيرا على البوسفور. هذا التدخل يتناغم ويختلف مع دور إيران وإسرائيل والغرب نفسه، مجتمعا ومنفصلا، وروسيا والصين، مما خلط الأوراق والمعايير والرؤية والمواقف والتحالفات: مقاتلو النصرة يتلقون العلاج في إسرائيل وتركيا، وإيران تدعم الشيعة في كل شبر، والخليج يدعم المعارضة الإسلامية السورية، والغرب يدعم الأقلية في البحرين والعراق ويدعم الحركات الإسلامية التي أطاحت بالاستقرار في ليبيا، وداعش تستخدم أسلوب الأرض المحروقة وهو من أساليب العدو، والمتطوعون الأوروبيون أفواجا في اتجاه داعش وانتصارا للنظام السوري ضد داعش والنصرة وغيرها، وروسيا تدعم سوريا وإيران بالسلاح، والصين تدعم في المحافل الدولية. حالة هلع ملهمة بالضياع .
إن هذا الوضع أو هذه الفوضى ستنتهي حتما، لكن على أي أساس؟ وفي أي اتجاه؟ ومتى؟.. هذه هي التساؤلات الملحة. الغرب بحاجة إلى التقاط أنفاسه لقاء ذلك، لكنه لن يحصل بمفرده على تلك الفرصة إلا عندما يمنحها لغيره: لإيران. وهنا حققت إيران نجاحها الكبير وبأقل تكاليف، لكن أين حدود البراعة الإيرانية وانعكاساتها على خريطتينا نحن الذين صرنا باحة ملعب؟.. لا يمكن الجواب بسهولة على هذا التساؤل العريض الذي جرته الأحداث بقوة للواجهة، لكن من المؤكد أن إيران على يقين من أن الصراع لم ينته، وبالتالي ستعالج مكامن القصور في استخدام الوفرة لمصلحة الحصار: معادلة "تزرعون سبع سنين وتواجهون مثيلاتها من القحط ". هذا من جهة، ومن جهة ثانية ستعمد على تعقيد وضعنا، فهو ورقة سلاح في حرب لي الأذرع مع الغرب. وهنا يبرز سؤال آخر على الطرف الآخر من المعادلة: هل فعل الغرب ذلك لمصلحة إيران؟.. والجواب دائما لا، بل الغرب يتجه نحو تحريك دفة الصراع أو تغيير مفاهيم الصراع على نحو لا تمتلك فيه إيران نفس القوة أو نصيب الأسد، وليقلص من الأبواب المفتوحة لتدخل الكل خاصة من دون التنسيق معه. هذا الوضع حوَل المنطقة العربية إلى فريسة تتكالب عليها الأطماع والمصالح، إلا أن ذلك حمل شعورا بالمرارة بالنسبة لشعوب هذه المنطقة. هذا الشعور يحمل التاريخ وسوف يؤيد أول خارج من تحت الركام براية النصر التي هي أي عنوان لمناهضة الأوضاع التي كانت سائدة مهما كانت إيديولوجيته، ليمنحه شرعية فريدة. هذه المقاربة الغربية ليست وجهة نظر إسرائيل وهي تشعر حيالها بالغضب، فهي تريد توجيه ضربة عسكرية تشل إيران للتعجيل من بناء مشروع إسرائيل الكبرى على الأرض باحتلال كامل فلسطين وجزء من الشام وهدم الأقصى وبناء الهيكل . فقد تم القضاء على العمل العربي بصفة عامة وعلى محور الشر بتدمير إيديولوجية الصراع العربي الصهيوني بدءا بمحو قاموس هذا الصراع خاصة مع حلول لعنة قناة الجزيرة مرورا بتدمير العراق وليبيا والسلاح الكيماوي السوري وإطباق الحصار على حماس وحزب الله. إن إسرائيل انتقلت من فرض الأمر الواقع إلى فرض شرعية السيطرة، وهي بالتالي الرابح المميز في السوق الكبير المفتوح أمام جميع البضائع، فعلى مر الأحداث تقطف إسرائيل الفرصة تلو الأخرى في طريق بناء إسرائيل الكبرى، فقد التهمت في أقل من ربع قرن 40في المئة إضافية من أرض فلسطين من دون حرب، ودخلت مرات عدة في أعماق القطاع لتدمير البنية التحتية، وها هي اليوم تخصف من ثمار الحرب الداخلية العربية التي دمرت كل القدرات والفكر والشهامة، فلم يعد با مكان العربي أن يتأثر لموت أخيه، وذلك انهيار آخر قلاع المقاومة. إن إسرائيل اليوم حرة طليقة اليد في العالم العربي، فلقد قصفت سوريا مرتين في مسعى لتبديد قدراتها الردعية، كما شرعت في تقييد الفلسطينيين، وأصدرت تشريعا يعاقب 20 سنة بالسجن على من يرمي بحجر على خلفية قتل ضابط إسرائيلي " عالي الرتبة "شابا فلسطينيا رمى سيارته بحجر، وهي بذلك تنتقل من معاقبة المجرم إلى معاقبة الضحية، وليته كان فردا بل شعبا بكامله: أي جبن ؟؟..الوقت غير مناسب بالنسبة لعالمنا العربي ليحشد التأييد ضد هذا القرار، والحقيقة المرة أن الحماية الوحيدة التي يتلقاها الفلسطينيون هي من لدن منظمات حقوق الإنسان في الغرب. الصراع العربي الإسرائيلي دخل منعطفه الأخير بعدما انتقل من دولي إلي إسلامي، ثم عربي إلى فلسطيني، ومن الفلسطيني إلي حماس وحزب الله، أي، بشكل أوضح، إيران وإسرائيل. إسرائيل لا تريد الصراع مع إيران قوية ولا تريد أن تكون هي أصلا من يقود هذا الصراع حتى وإن كانت في الخلف، بل تريد أن تكون تركيا الصديقة هي من يحمل مشعل القضية الفلسطينية. وتركيا لا تمانع في ذلك لكن شريطة غسل سجلها من درن الأرمن وحزب العمال وتخفيف الحواجز أمام الانضمام للعالم الأوروبي. فها هي تبلي البلاء الحسن فقد سيرت قافلتين لكسر الحصار الإسرائيلي عن غزة ـ ليس ذلك سيئا ـ واعتقلت 6000 شخص واعترضت 15000 آخرين من المقاتلين كانوا ينوون الالتحاق بداعش بعدما "أينعت وحان قطافها " . البلدان الخليجية ترتكب أكبر خطأ من حيث اعتبار أن الاتفاق مع إيران موجه ضدها، وخطأ ثان لقاء صمتها عن سحبها من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي والتقليل من دورها في التحولات التي تدور رحاها على الأرض العربية . ولا يقل ذلك عن خطئها في التحليل حيث تضع نفسها في موقع غير موضوعي حيال علاقاتها بالغرب. إنها تعول كثيرا علي مخزونها النفطي دون أن تطور أي سلاح آخر أو أية قدرات خارجا عن مراقبة الغرب، بل لم تطوره على الإطلاق، والنفط وحده في الواقع لا يغطي كل مصالح الغرب ، بل ومحروس بواسطة قواعده حيث تحتضن أصغر دولة في الخليج أكبر قاعدتين أمريكيتين: "العديد والسليلة" . إنهم بذلك لا يملكون خيارا في الابتعاد عن مشيئة الغرب . وهو يكتفي أثناء جردت الحساب بأنه أبعدهم من مرمي نيران الفوضى وسمح بسحق ألسنة الثورة في البحرين وبإدارة قناة الجزيرة لظهرها لكل الأحداث على كامل تلك الربوع وتجميد كل الشرور التي اشعلت بها نار الفتنة في بقية العالم العربي، فما يريدون أكثر .
إن الحقيقة المرة أن الاتفاق النووي الغربي الإيراني لا ينطوي على أي شكل من خدمة العرب وهو من أجل هدفين :
ـ أحد الأهداف يُفهم في لماذا أخرت أمريكا عملية اغتيال أسامة بن لادن وهي التي عرفت مكانه منذ سنوات؟.. فقط لأنها لم تشأ القضاء على القاعدة لأن شرعية الحرب يجب أن تمتد سنوات أخرى لكي تعطي نتائج أكبر وتسمح لصناعة البديل ، وعندما استُهلكت مشروعية الحرب على القاعدة أعدمت بن لادن وخلقت تنظيمات عنقودية بديلة، كل يوم تأخذ اسما ومظهرا وموضعا مختلفا، لكن هذه التنظيمات مغايرة لفلسفة وفكر ونمط القاعدة، إذ لم تجد أي شرعية في الشارع بسبب أسلوبها الفظيع ولأنها تحارب الأهالي أنفسهم وبالتالي لن يطول عمرها ولن تفي بالغرض، فلابد من تحضير البديل، وإيران تعرقل ذلك. إذن لابد من إخضاع إيران للتعاون .
ـ الهدف الثاني هو التخلص من عبء إسرائيل أو تخفيفه وهي تدخل المرحلة الأبشع، وهكذا يتم تهيئة المناخ لإكمال ذلك المشروع الذي كلفهم كل شيء على مدي القرن الماضي، فهم يقيدون كل العالم (أخلاقه، إنسانيته، قوته) في سبيله، فقد تم خفض رصيد الإنروا وها هو حزب الله تستنفذ قوته في سوريا وحماس تقتل على حدود مصر. الإمعان في إضعاف العرب خاصة محور المقاومة لكي لاتواجه إسرائيل أي عقبة ميدانية . إنها مرحلة فظيعة، لكن ذلك ليس نهاية هذه الأمة فقد وحد الإسلام قبائل الجزيرة في شعب واحد لتكون بذلك الأمة العربية والإسلامية أعظم حضارة على الأرض قرابة 800سنة ، ليدخل التاريخ في دورة جديدة هي الأخرى في قرنها السابع ، فهل سيكمل دورته وإلى ما ستفضي أم أن الذي يتراءى في خضم الوضع الراهن أشراط الساعة كما تنعتها كتبنا. وعلى كل لابد من حل من داخل أو خارج هذا الهرج.