صالون الولي محمذن ولد محمودا... وصالونات أخرى... / أحمدو بزيد

كادت عُقد أن تتشكل لدي، بسبب فشلي في ممارسة الألعاب أيان عهود الصبا والمراهقة، بل في مرحلة ما وجدتني أحس بنقص عن أترابي لكوني لا أعرف شيئا عن كرة القدم، ولا لعبة الورق، ولا الشطرنج... وغيرها من مسليات الألعاب، لقد كان الفشل رفيقي في كل محاولاتي لتعلم الألعاب.


كنت أبيت الليالي ذوات العدد حزينا حيران أسفا، لكوني لا أجيد أي لعبة، ذرني وما بقي في النفس من ذلك على مدى سنوات. ولكن من نعم الله أن قضى بتجاوز تلك المرحلة من العمر، فزالت تلك الأشياء.

كان هذا القدر حاديا إلى سد الفجوة بأشياء أخرى، وما كان في مستطاع الموهبة غير هوايتين هما: هما المطالعة، والمجالسة.

أما المطالعة فأوقفتني على مراكز جهلي، وأما المجالسة فنهضت بي إلى طَرق مجالس الكبار، ووجدت في كلتيهما متعة لا أبغي أن لي بها حمر النعم، ولا البيض من سيارات V8 وما زلت ذكورا والحمد لله لتلك الآلاء والأفضال.

كنت شغوفا بمجالسة الكبار، وقَصصهم، وأجد في المجال أنسا لا أظفر به في غيره، ولعل عرقا من تربية جدتي - حفظها الله - نزعني إلى ذلك، فهي راوية، لها يد ليست بالقصيرة في الأدب والتاريخ والسير... وكانت تنيلني شيئا من ذلك، وهو ما حبب إلي تلك الأحاديث.

خلال موفية عقد التسعينيات تعرفت على المرحوم الأديب إبراهيم ولد مولود ولد داداه، وكنت زوارا له ابتغاء الاستفادة والاستزادة من معارفه وطرائفه.

تبينت أن الأستاذ الأديب المؤرخ بابه ولد اسويدات - حفظه الله - يزوره ضحى كل سبت، فصرت لا أفوت الفرصة، وفي مرحلة انضم الأستاذ الشاعر أحمدو ولد عبد القادر للمجلس إلى أن انتظم أمره، فصار ضحى السبت الموعد المعتاد بيننا، كان المجلس يبدأ حوالي العاشرة صباحا إلى أن يقترب وقت صلاة الظهر، فكان مجلسا أدبيا بما تحلمه اللفظة من معنى. كثيرٌ من القَصص، والطرائف، وشيء من الشعر... وغير ذلك مما يزيده حلاوة.

ارتاده أعيان وفتيان وأدباء، كان المرحوم التقي ولد بلَّـا يُلم به إذا أدركه الوقت في انواكشوط.

كان ذلك المجلس شبه صالون أدبي، غير مصنف، لم يحظ بالدعاية، لكنه كان على ما كان.

دعت أحوال إلى أن أترك الديار وأشد الرحال إلى المغرب، وما وجدت ثَمَّ سلوا عن ذلك المجلس، فكنت أُعمل البحث عن مضارع إلى أن حضرت صحبة الدكتور محمد الظريف في الرباط صالون الأستاذ عباس الجراري، وكان من أجلاء القوم وكبرائهم، تبحث في صالونه مختلف مسائل المعارف، وفيه الوافر من الإفادات، وكان من سننه أن يناقش آخر الإصدارات المغربية في أماسيه.

وفي المغرب امتدت تلك العرى إلى أن أوصلتني إلى صالون آخر وما هو بدون من المذكور قبله، وهو صالون الأستاذ الشاعر مولاي أعل الصقلي - رحمه الله - كان أديبا شاعرا، وهو صاحب كلمات النشيد الوطني المغربي.

استمر وصال الصالونات، وجاءت دواع أخرى دعت إلى الإمارات العربية، فكان صالون المستشار السيد علي الهاشمي في أبو ظبي عوضا عن سابقيه.

تتوارده نخبة من رجال العلم والفكر، ولا يخلو من إنشاد لمدائح نبوية.
كان من رواده وزير الإعلام العراقي الأسبق محمد سعيد الصحاف، كان لا يغيب عن جلساته، وأكثرَ من الكلام إذا رد التحية لمبادره بها، منصتا طوال الجلسة، مطبق الشفتين لا يتكلم.

آخر مرة حضرت ذلك الصالون في العام ألفين وسبعة صحبة الوزير والسفير السابق الشيخ سيدي أحمد ولد بابه أمين، وكان حينها في زيارة للإمارات.

أيام الإقامة في بيروت كنت حريصا على حضور صالون الشيخ أحمد الزين، وهو شقيق القنصل الشرفي لموريتانيا في بيروت، وكانت في مجلس الزين كثافة من المثقفين، أذكر منهم المهندس النابه أيمن السنيورة.

وخلال تلك الفترة كنت أختلف إذا سمحت السانحة إلى دمشق لشهود صالون الشيخ محمد الفاتح المكي الكتاني، كان من العارفين، تأخذه بعض الأحايين حالات تواجد.

ذات مقامي في السعودية لم أوفق في حضور "إثنينية" عبد المقصود خوجة، وإن كانت مهوى لأفئدة رجال العلم والفكر، لكنها شواغل منعت ذلك.

صالونات أخرى حضرتها، أفادتني كثيرا، وقادتني إلى رغبة في وجود مماثل في موريتانيا، وكذا إلى التساؤل عن عدم وجود صالونات علمية وأدبية في البلاد؟ لكن الإجابة تأتي بداهة على السؤال بأسباب حداثة الأهل بعهد البداوة، ونشاز الظاهرة على الموروث الثقافي.

لم تتركني الفكرة من مراودتها، إلى أن جمعني مجلس بالمرحوم السفير مولاي الحسن ولد المختار الحسن - خلال إحدى الإجازات - فذكرت له الأمر، فجاء قبوله سريعا، وتعهد بالعمل على تنفيذ الفكرة، وكان وفيا بوعوده، لكن الأجل عاجله، رحمة الله عليه.

من منن الله أن قام الولي محمذن ولد محمودا في السنوات الأخيرة بتفعيل صالونه، فسد فجوة واسعة في حقل التلاقي الثقافي في موريتانيا، كما مثل محجة للعلماء والمفكرين والأدباء والباحثين ورواد الإعلام وهيئات المجتمع المدني، والجميل أن الصالون ينبعث اليوم في مكان رعى قطانه الهشيم، وفي زمان امتد جفاف المعارف بأهله إلى وخيم المرتع ووبيل الفكر، فأروى الصالون بعد عطش، وأشبع عقب مسغبة.

إن أحوج ما نحتاجه في ظرفنا هذا هو العمل على تدارك ما علا به شأننا وسما به ذكرنا في سالف الأزمان ومختلف الأقطار، إذ لم يبق لنا في ميدان الثقافة في الغرب والشرق العربيين غير اجترار ذكر صبابة إرث لأسلاف رفعوا الاسم عاليا في تلك الأصقاع.

فرحت كثيرا لما رأيت جلة المثقفين وكبراء الناس يأمون في سبتهم صالون الولي محمذن ولد محمودا، يتدارسون مهم القضايا، ويناقشون جديد الساحة الثقافية، ويثيرون المطروق من الإشكالات.

ومما حرّض رواد الصالون على حضوره نأيه في نقاشاته عن قضايا الخلافات السياسية المفسدة للمودة، والطاردة عن واسع رحمة التوافق.

فلا يسجل من خلاف في سجالات صالون الولي غير تباين بين اثنين في إشكال عملي أو طرح فكري، فيصير الخلاف محمدة بعائدته الفكرية وفائدته المعرفية.

كان مأخذي الوحيد على أغلب الصالونات التي حضرتها في العالم العربي هو تسابق حضورها إلى مدح صاحب الصالون والإطناب في ذلك، حتى أنه في بعض الأحيان يتحول موضوع الجلسات إلى ذلك السلوك المزعج! شهدت كثيرا من ذلك، وضايقني غير قليل.

في صالون الولي محمذن لا شيء من ذلك، يحضره الولي كعامة الناس، فلا فروق بينه وإياهم، إلا أنه خادمهم وهم نزلاءه.

في إجازتي الماضية شرفني الولي بدعوة لحضور الصالون، كان موضوع الجلسة تحت عنوان: "التعالق الموريتاني الإفريقي" وكان الضيوف من علية القوم ومختلف المشارب، دارت مطارحات الموضوع بهدوء وسلاسة، وكانت الفائدة ثرية.

خرجت من الصالون بعد انقضاء الحلقة، جذلان فرحا، إذ رأيت ما كنت أغبط عليه أصحابه في العالم العربي، وما كنت أتمناه، واقعا في موريتانيا.

إن هذا الصالون تخطى مرحلة التأسيس إلى مرتبة فاعلية الدور، ولا نتجوز في العبارة إذا قلنا إنه أضحى اليوم الحاضنة الثقافية الأهم في البلاد، الناظمة لمتنوع مشارب الفكر، الناهضة إلى فعل سيترك أثره بينا في تاريخ الثقافة الموريتانية.

لقد صار الصالون بمستوى مؤسسة علمية دخلت حيز الفرادة في موريتانيا في ظرف يسير، وقد تتوسل - إن شاء الله - في زمن أوجز إطار الريادة خارج البلاد.

وفي الختام، وإذ نحمد للولي هذا الجهد القيم الفريد، فإنه من الإضافات الملحة التي يطلبها كثير من الناس هو العمل مستقبلا على بث حلقاته كاملة على "اليوتيوب" لتعم الفائدة، ولا يغبن الحاضر الغائب.

4. أغسطس 2015 - 10:34

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا