لم يسبق لي الكتابة في هذا الموضوع لأنى لا أرى أن المجتمع الموريتاني قد بلغ عتبة النضج السياسي حتى يدرك فقه السياسة واكتفيت بالكتابة في المقالات العلمية والفكرية ولكن يبدو أنه لم يعد هناك اهتمام يذكر لغير الساسة والسياسيين..
قرأت خبرا مقتضبا صباح اليوم مفاده أن رئيس الجمهورية انتقد أداء وزارة الخارجية وتعاملها مع المراسلات القادمة من البعثات الدبلوماسية في الخارج.. مضيفا أن الدولة الموريتانية تنفق أموالا طائلة على الدبلوماسية دون تحقيق ماهو مأمول منها.. مطالبا بالابتعاد عن الروتين والبيروقراطية..)
أعدت قراءة الكلام مرة أخرى متسائلا ماذا يقصد الرئيس من هذه الانتقادات وهو الآمر الناهي في هذا البلد؟! أم أنه أحس فعلا بما وصلت اليه الدبلوماسية الموريتانية من ترهل وهوان.. وان الخطاب موجه للدبلوماسيين الموريتانيين من خلال الوزارة الوصية!!
اذا رجعنا قليلا الى الوراء فإننا نجد أن سمعة موريتانيا في الخارج كانت وماتزال تعتمد في الأساس على ثقافة ومؤلفات الشناقطة الأوائل وهذه المؤلفات لم تظهر دفعة واحدة بل تبلورت عبر مراحل ومجهود أثقل كاهل هؤلاء العلماء الأفذاذ في تحصيل دؤوب عن طريق قوافل الحج التي كانت تجلب الكتب من الحجاز ومصر وبلاد المغرب العربي وعن طريق الرحلات العلمية التى كان يقوم بها البعض بحثا عن الكتب والورق...
فقد ظل علماء الشناقطة يراسلون نظراءهم في البلاد العربية ويسألونهم عن نوادر المخطوطات وأماكن وجودها ،فكانوا يطلبون المخطوطات من السلاطين والملوك ويسافرون إليهم من أجل الحصول عليها. وقد أهدى سلطان المغرب لإبن رازكة مكتبة عاد بها من المغرب كما عاد الشيخ سيديا من رحلته إلى مراكش بمكتبة كبيرة وقد رحل الشيخ محمد اليدالي بن سعيد إلى أغادبر وعاد ببعض الكاغد الشاطبي وازدهرت سوق المخطوطات في بلاد شنقيط التي اهتم أهلها بالكتاب واشتروه بأثمان غالية، فقد اشتري
"موهوب الجليل شرح مختصر خليل" للحطاب بفرس عتيق، كما أشتري القاموس المحيط بعشرين بعيرا!! .
وانتشر نساخ المخطوطات الذين هم بمثابة دور للنشر وتنافسوا في استنساخ المخطوطات وجلب نوادرها، فكان ذلك ضمانة لبقاء هذه المخطوطات ونشرها في زمن لم تظهر فيه وسائل الطباعة الحديثة.
هذه شذرات من قصة ثقافتنا وماضينا المجيد، تتجسد في حب اقتناء الكتاب ومجالسته، وحب التحصيل العلمي.. وهي الثقافة التي استطاعت أن تفرض للمثقفين الاحترام والتبجيل في ظل مجتمع لم تكن فيه سلطات يأوي إليها المظلوم.
وهذا مانتج عنه مايمكن أن نسميه السفارة الشنقيطية ان صحت هذه التسمية فليست هناك مقارنة بين الدور الريادي للشيخ الشنقيطي وسمعته على المستويين العربي والعالمي وسفارتنا الحالية.. مع الفارق الكبير في ما توفر لنا من وسائل وما كان لديهم من إمكانيات..
فعلى مدى عقود من الزمن وموريتانيا تفتح في السفارات وتبعث بالسفراء وتنفق الملايين,, وفى الأخير تتفاجأ بأن هؤلاء أصبحوا سفراء حقائب, يقضى الواحد منهم ما شاء أن يقضى في الخارج في ترف منقطع النظير. وعندما تحين العودة إلى الوطن تمتلئ الشنط بما غلا ثمنه وخف وزنه, بدليل ما نشاهده الآن على شاشات الفضائيات العربية والدولية وماصادفناه في رحلاتنا المختلفة من استهزاء وتلكأ بكل ما هو موريتاني.
وهذا ما يوضح تقصير هؤلاء السفراء عن دورهم المنشود في التعريف بوطنهم..وهم الذين استنزفوا خيرات هذا البلد عبر عقود..
فيكفي أن نعمل جردا عاديا لرواتبهم وميزانياتهم التي تجاوزت ما وراء البحار على مدى 50 سنة, لتتبين مدى خلل التفكير عند هؤلاء. ولا ينبئك مثل خبير، فسفراؤنا الحاليين والمتقاعدين عندهم خبر اليقين.غير أننا نرجح دائما الشعر أو "الغناء الحساني" ليتكلم بلسان حال هؤلاء قبل لسان مقالهم. والقصة تحكى عن أحد الذين عانوا من تسيب سفاراتنا في الخارج.
كان أحد سفرائنا في أحدى الدول الشرق أوسطية والتي عادة ماتمنح نوعين من الطلاب: طلاب عاديين، وطلاب من جهات أخرى، ونظرا للتأخر المنحة واقتراب ذهاب الطلاب العاديين في العطلة الصيفية إلى البلاد، وكان آنذاك يوم الاثنين آخر أيام السنة الدراسية وهو اليوم المحدد للقاء السفير بالنسبة للطلاب العاديين لذلك لجأ السفير إلى استبدال يوم الاثنين بالخميس بعد علمه بأن هؤلاء الطلاب سيذهبون يوم الاثنين في العطلة الصيفية "مناورة منه"، مدعيا أن ذلك اليوم من نصيب الطلاب الآخرين, فقال قائلهم بالشعر "الحساني":
يلگ كَانٌ الطلًاب كَلٌ أثٌنين أُذَ طَابٌ
أعليه أولا ينصاب عن ملگاه أفلثنين
ذا السفير أو ينهاب أفست أيام أخرين
غير إبان أراعيه أتاليل مسكين
يتخاف عاد أعليه لخميس أمع لثنين
وما دامت دولتنا فاقدة لركيزتي التمثيل الدبلوماسي، و التعليم والبحث العلمي، فإنه من الصعب عليها أن تحافظ على توازنها الذاتي، مع تلبيتها لمطلبي الثبات والتغير. وبوجود خلل في هذه العوامل فستصاب حتما بالتقادم وبالتالي العجز..
ونحن هنا إذ نورد هذه القضايا إنما نبحث عن العلة الكامنة في الذات، فإن نحن نجحنا في معالجتها فإن المشكلة ستزول - تلقائيا- بزوال أسبابها وإن تجاهلناها وعالجنا الظواهر فقط، فستعاودنا بأشكال شتى،كمن يتوجه إلى البعوض بأطنان مبيدات الحشرات، ولا يفطن إلى تجفيف المستنقع الذي يحتضن بيوضها فلا تلبث أن تفقس من جديد..
فهل انتقاد رئيس الجمهورية بداية لإصلاح الدبلوماسية والتعليم بإعادة الثقة في الثقافة والمثقف والاستفادة من أصحاب العقول، وتوظيفها، وتنميها، ومساعدة أصحابها، على النهوض والتغلب على العراقيل التي تعترض سبلهم ؟؟ أم أنه مجرد انتقاد عارض كما يحدث أسبوعيا في مجلس الوزراء وتعودوا عليه وكأنهم معنيون بقول الشاعر:
من يهن يسهل الهوان عليه مالجرح بميت ايلام.