لما أخذت سنه صلى الله عليه وسلم تدنو نحو الأربعين، نشأ لديه حب العزلة بين الفينة والأخرى ، وحبب إليه الاختلاء وهو في غار حراء(جبل يقع في جانب الشمال الغربي من مكة)، فكان صلى الله عليه وسلم يخلو فيه ويتعبد الليالي ذوات العدد، فتارة عشرة وتارة أكثر من ذلك إلى شهر. ثم يعود
إلى بيته فلا يكاد يمكث فيه قليلا حتى يتزود من جديد لخلوة أخرى ويعود الكرة إلى غار حراء ، وهكذا إلى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك .
إن لهذه الخلوة التي حببت إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة دلالة عظيمة جدا ، ولها أهمية كبرى في حياة المسلمين عامة والداعية إلى الله بصورة خاصة .
فهي توضح أن المسلم لا يكمل إسلامه مهما كان متحليا بالفضائل قائما بألوان العبادات حتى يجمع إلى ذلك ساعات من العزلة والخلوة، يحاسب فيها النفس ويراقب الله تعالى ويفكر في مظاهر الكون ، ودلائل ذلك على عطمته جل وعلا .
هذا في حق اي مسلم يريد لنفسه الإسلام الصحيح ، فكيف لمن يريد أن يضع نفسه موضع الداعية إلى الله والمرشد إلى طريق الحق .
وحكمة ذلك أن للنفس الإنسانية آفات لا يقطع شرتها إلا دواء العزلة عن الناس ومحاسبتها ، فالكبر والعجب والحسد وحب الدنيا ، كل ذلك آفات من شأنها أن تتحكم في النفس وتتغلغل إلى أعماق القلب ، وتعمل عملها التهديمي في باطن الإنسان على الرغم مما يتحلى به ظاهره من الأعمال الصالحة ، والعبادات المبرورة .
وليس لهذه الآفات من دواء إلا أن يختلي صاحبها بين كل فترة وأخرى مع نفسه ليتأمل في الناس ومدى ضعفهم أمام الخالق ، وفي عدم اي فائدة لمدحهم أو قدحهم . ثم لنتفكر في مظاهر عظمة الله وفي اليوم الآخر ، وفي الحساب وطوله ، فعند التفكير الطويل المتكرر في هذه الأمور تتساقط تلك الآفات اللاحقة بالنفس ويحيا القلب بنور العرفان والصفاء ، فالأمور العقلانية وحدها ما كانت يوما لتؤثر في العواطف والقلوب ، ولو كان كذلك لكان المستشرقون في مقدمة المؤمنين بالله ورسوله ، ولكانت أفئدتهم من اشد الأفئدة حبا لله ورسوله . أوسمعت بأحد ضحى بروحه إيمانا منه بقاعدة رياضية ، أو مسألة من مسائل الجبر .!
يقول العلامة محمد مولود أحمد فال في مطهرته :
وطب امراض القلوب الجامع لهن نفي النفس عما تتبع
وسغب وسهر الليالي والصمت والفكرة وهو خال
وإنما الوسيلة إلى ذلك كله بعد الإيمان بالله كثرة التفكير في آلائه ونعمه. فقد قيل لأم الدرداء : ما كان أفضل أعمال أبي الدرداء ؟ قالت التفكر.
وإنما يتم ذلك بالعزلة والخلوة والابتعاد عن الدنيا وضوضائها في فترات متقطعة من الزمن (الخروج ثلاثة أيام ، أربعين يوما ، أربعة أشهر).
ولقد أجاز الشاطبي رحمه الله تعالى في موافقاته حينما فرق في هذه الدوافع بين عامة المسلمين الذين دخلو في ربقة التكاليف بدوافع من عموم إسلامهم ،وخواصهم الذين دخلوا في رفقة التكاليف يسوقهم ما هو اشد من مجرد التعقل والفهم .
يقول ( فالصرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد ، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف والرجاء والمحبة ، فالخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة تيار حامل.....).
واتخاذ الوسائل المختلفة لتحقيق هذه الدوافع الوجدانية في القلب ، مما اجمع المسلمون على ضرورته ، وهو ما يسمى بالتصوف عند جمهور العلماء ، أو الإحسان عند بعضهم ، أو بعلم السلوك عن بعض آخر كالإمام بن تيمية .
بيد أنه لا ينبغي أن يفهم معنى الخلوة كما شذ البعض ، ففهموها حسب شذوذهم وهو الانصراف الكلي عن الناس ، واتخاذ الكهوف والجبال موطنا، واعتبار ذلك فضيلة بحد ذاته . فذلك مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما المراد هو استحباب اتخاذ الخلوة دواء لإصلاح الحال، والدواء لا ينبغي أن يؤخذ إلا بقدر وعند اللزوم ، وإلا انقلب إلى داء .