في يوم الجمعة (7 أغسطس 2015) رحلت عن دنيانا الفانية سيدة فاضلة، رحلت بهدوء وصمت، وذلك رغم أنها كانت قد تركت خلفها عددا كبيرا من الأبناء الذين ربتهم فأحسن تربيتهم، ورعتهم فأحسنت رعايتهم، وعلمتهم فأحسنت تعليمهم، والذين من بينهم الآن من يتقلد الوظائف السامية
والمراكز العالية في بلده أو في بلد آخر، والذين من بينهم أيضا من لم يتجاوز عمره الأربعة أشهر. يوجد الآن بدار الراحلة ثلاثة وثلاثون طفلا تتراوح أعمارهم ما بين الأربعة أشهر والستة عشر عاما.
في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، ولدت هذه السيدة الفاضلة، والتي ستجد نفسها يتيمة من جهة الأبوين، ومن قبل أن تكمل عامها الثاني عشر، وسيكون لذلك الأثر الكبير في حياة هذه السيدة الفاضلة. لقد كانت تقول، وهي ما تزال في شبابها، لئن أنعم الله عليَّ بالمال فإني لن أصادف يتيما إلا وكفلته.
في العام 1960، ومع ميلاد الدولة الموريتانية بدأت هذه السيدة الفاضلة بتنفيذ وعدها، وبدأت في كفالة الأيتام، وفي إيواء الأطفال الذين تخلت عنهم أمهاتهم، وفي العام 1968 أطلقت منظمتها الخيرية أو معهدها الذي حمل اسمها.
لقد بدأت هذه السيدة الفاضلة عملها الخيري مع ميلاد الدولة الموريتانية، وستتمكن هذه السيدة أن تنجح في دارها وفي معهدها في ملفين في غاية الأهمية، كانت الدولة الموريتانية قد فشلت فيهما تماما، إنهما ملفا الوحدة الوطنية والتعليم.
لقد كان أول شيء لفت انتباهي، وأنا أزور دار الراحلة لتقديم التعازي رفقة بعض المدونين الذين كانوا قد قرروا أن يعرفوا بهذه السيدة الفاضلة وبجهودها، لقد كان أول شيء لفت انتباهي هو أن موريتانيا كانت حاضرة، وبمختلف أعراقها لتقديم التعازي. صحيح أن العدد كان قليلا، ولكنه كان معبرا جدا، فقد ضم كل الأعراق وكل الشرائح والفئات، وكان من بين المعزين شيخ الطريق الصوفية، والإمام، والإطار الدولي، والموظف السامي، والمواطن العادي.
لقد تمكنت هذه السيدة الفاضلة، وحتى من بعد موتها، أن تجمع في دارها صورة مصغرة من موريتانيا الحلم، موريتانيا التي تجتمع فيها كل الأعراق والمكونات. أما في حياتها فحدث ولا حرج.
لقد ظلت دار هذه السيدة الفاضلة، خلال نصف قرن أو أكثر، تأوي أطفالا ومن مختلف الأعراق والمكونات، يتحدثون فيما بينهم بمختلف لغاتنا الوطنية. ولقد تحدث أمامنا وفي مجلس العزاء أطفال الدار الذين يوجدون بها الآن بمختلف لغاتنا الوطنية، وقد كانوا يمثلون مختلف الأعراق.
ولقد تحدث كذلك رجل خمسيني في مجلس العزاء، لم يكن ممن تربى في الدار، ولكن كان له أصدقاء قد تربوا في هذه الدار. ولقد قال هذا الرجل، وبكلام مؤثر، بأنه تعلم كل اللغات الوطنية في هذه الدار، ولقد تحدث أمام الحضور بكل لغاتنا الوطنية.
وفي مجال التعليم فقد نجحت هذه السيدة الفاضلة في تعليم الأجيال التي تربت في دارها، نجحت بفضل معهدها، والذي كان يجمع بين التعليم المحظري والعصري، وكذلك نتيجة لسهرها على تعليم كل من تربى في دارها، والدليل على نجاحها هو أن المعزين كان يتم استقبالهم من طرف أطر ساميين ودوليين كانوا قد تربوا في دار هذه السيدة الراحلة، وبعضهم جاء من أوروبا لما علم برحيل والدته التي ربته، وعلمته، فأحسنت تربيته وتعليمه.
لقد قدمت هذه السيدة الفاضلة، في مجال التعليم، وفي مجال تعزيز الوحدة الوطنية ما عجز عنه الآخرون ممن أزعجوننا بالصراخ وبالثرثرة عبر الجرائد والفضائيات.
لقد كانت هذه السيدة الفاضلة تعمل، وتبذل، وتعطي بصمت وبهدوء، لم نطالع لها بيانا، ولم نسمع أنها نظمت مهرجانا خلال نصف قرن أو يزيد من البذل والعطاء، ولم نقرأ لها مقابلة في جريدة، ولم نسمعها تتحدث في إذاعة، ولم نشاهدها في تلفزيون، ولا غرابة في ذلك فهذه السيدة الفاضلة لم تكن تبحث عن الأضواء، ولم يكن إعلامنا يبحث عن النماذج المضيئة التي يجب أن يتم تقديمها للناس، ولذلك فلا غرابة أن تظل هي وإعلامنا يسيران في اتجاهين متعاكسين ولا يلتقيان أبدا.وحتى من بعد رحيلها، فقد تجاهلها الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد ولم يتحدث عن رحيلها، ولا عن تجربتها المضيئة، ولولا "ثرثرة" بعض المدونين لما علم أحد برحيلها.
رحم الله "مريم جالو" لقد كانت تعطي بصمت، وتبذل بصمت، وتضحي بصمت، وها هي اليوم ترحل عن دنيانا الفانية بصمت.
فوداعا يا "مريم جالو"، وإن خير ما نودعك به هو هذا الحديث الشريف، فلقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، وأشار بالسبَّابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا.
حفظ الله موريتانيا..