رفع اللبْس عن النسبة بين السَّجْن والحصْر والحبْس / محمد يحيى بن محمد بن احرْيمو

يقول علماء اللسانيات : إن من أعظم خصائص اللغة العربية أنها أكثر اللغات استجابة لمقتضيات المنطق وما تمليه قواعده من دقة وتمييز بين الأشياء.   .
إن للعرب طريقة خاصة في التعبير عن مختلِف الأحوال والأحداث،   وما تحمله من صفات وخصائص؛  تلك الصفات التي يسميها المناطِقة بالكيات الخمس

وهي : الجنس ، والنوع ، والفصل ، والخاصة ، والعرض العام . وهي باختصار الصفات التي بها يقع التمايز بين أنواع وأصناف المسميات الكلية.   
وطريقة اللغة العربية في التعبير عنها دقيقة جدا فهي تضع لكل نوع أو صنف أو حدث  لفظا يعبر عن خاصيته وصفته, ويغني عن تعريفه بالحد والرسم وتطويل الكلام في وصفه؛ باختصار لكل وصف أو حدث  ألفاظ تعبر عنه مع مراعاة قيوده وصفاته المختلفة .  .
,وهذا من مظاهر رفعة هذه اللغة وشرفها على باقي اللغات فلهذا ا اختارها الله تعلى وشرفها بكتابه العزيز .
وكثيرا ما يظن في بعض ألفاظها الترادف ويكون ذلك غير واقع؛  كما في السيف والصارم فالأول " علم مرتجل" والثاني وصف غلبت عليه الاسمية لدلالته على صفة القطع، وقد يحصل العكس فيظن في المترادف انه غير مترادف وهكذا...
و الحصُرُ في لغة العرب يكون تارة مرادفا  للحبْس وهو الأكثر،  وتارة يكون بمعنى الحبس مع تضييق، فهو أخص من مطلق الحبس، والأخص يستلزم الأعم وزيادة كما هو معلوم ضرورة. والحبس في اللغة أعمُّ من الحبس في المعنى الاصطلاحي؛  الذي يرادفه لغةً السَّجْن وهو الحبس في السجن كما قال الراغب في مفرداته فهو أخص من مطلق الحبس والحصر . وكل من الحبس والحصر يصدق على السجن من باب انطباق الأعم على الأخص؛  
فنقول مثلا: حُصر زيد عن وطنه إذا عرض له مانع يمنعه من دخوله كما في قوله تعلى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)؛  ولو عبرنا بالحبس هنا لكان مطابقا تماما، ولهذا أجمع المفسرون على تفسير الحصر بالحبس في هذه الآية، ومثله ما في الحديث:   عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ  "إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْر" رواه البخاري ومسلم .
ولا نقول في هذا السياق سجنهم العذر ولكن نقول : إن السجين محبوس ومحصور، لأن الأعم يسلتزم الأخص لا العكس، ولهذا شاع استعمال الحبس بمعنى السَّجْن في لغة أهل الشرع والقانون .
أما الحبس والحصر فالنسبة بينهما الترادف غالبا،  وتارة يكون الحصر  مشعرا بمعنى الإحاطة والتضييق، الذي هو أخص من مطلق الحبس؛ وهذا المعنى أنسب للحبس بمعنى السجن، فمن قال: إن المسجون محصور أو محبوس فلا إنكار عليه.  بل إن الحصر أبلغ في الدلالة على حال السجين!!! 
ولهذا استخدم ابن ماجة في سننه الحبس في حالة عثمان بن عفان رضي الله عنه،  فقال معلقا على حديث عهد النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان في شأن يوم الدار: " يوم الدار هو اليوم الذي ( حبس ) عثمان في الدار " ( سنن ابن ماجه 1\42 دار الفكر).
- ولهذا قال راجز العرب رؤبة بن العجاج لما حبسه الأمير نصر بن سيار :
" الحَصْرا " *** رَأَيْتُهُ كَمَا رَأَيْتُ نَسرا    مِدْحة "محصور" تشكّىَ
كُرِّزَ يُلْقِي قادِماتٍ زُعْرا *** دَجْرانَ لَمْ يَشْرَبْ هُناكَ الخَمْرا
إِنِّي وَأَسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرا *** لَقائِلٌ يا نَصْرُ نَصْراً نَصْرا
بَلَّغَكَ اللَّهُ فَبَلِّغْ نَصْرا *** نَصْر بْنَ سَيّارٍ يُثِبْنِي وَفْرا..
فعبر بالحصر عن السَّجن، ورؤبة كما قال أبو الفرج الأصبهاني: "أخذ عنه وجوه أهل اللغة و کانوا يقتدون به و يحتجون بشعره و يجعلونه إماما."
قال أبو هلال العسكري في كتابه: ( معجم الفروق اللغوية1\190 ): 
"  " الفرق بين الحصر والحبس: أن الحصر هو الحبس مع التضييق يقال حصرهم في البلد لانه إذا فعل ذلك فقد منعهم عن الانفساح في الرعي والتصرف في الامور ويقال حبس الرجل عن حاجته وفي الحبس إذا منعه عن التصرف فيها، ولا يقال حصر في هذا المعنى دون أن يضيق عليه وهو في حصار أي ضيق"  ."
وقال الرغب الاصفهاني في المفردات ::
  " الحصر التضييق ، قال عز وجل : { واحصروهم } أي ضيقوا عليهم وقال عز وجل { وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا } أي حابسا  .   ".
وقال الزبيدي في تاج العروس في مادة " ح ص ر " : 
" الحصر : التضييق ...والحصر أيضا : الحبس . يقال : حصرته فهو محصور أي حبسته ومنه قول رؤبة :
" مدحة محصور تشكى الحصرا
يعني بالمحصور المحبوس. "
ونحوه في لسان العرب لابن منظور مادة " ح ص ر ". ."
وقال الراغب الاصفهاني في المفردات: " السجن الحبس في السجن"، فبين أنه أخص من مطلق الحبس والسجن.
ويظهر من كلامهم أن الحصر والحبس مترادفان في الغالب وربما يأتي الحصر بمعنى أخص من مطلق  الحبس وهو الحبس  مع الإحاطة والتضييق، وأن السجْن أخص منهما لأنه خاص بالحبس العرفي . والله الموفق .    

12. أغسطس 2015 - 14:37

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا