تحتضن العاصمة نواكشوط هذه الأيام مؤتمرا دوليا ترعاه الحكومة الموريتانية حول ثقافة السلم ومحاربة التطرف العنيف عرف حضورا مميزا للشيخ عبد الله بن بيه حفظه الله ولبعض المفكرين والساسة من دول غربية وعربية وإفريقية .
ويبدو أن مصطلح التطرف العنيف قد دخل القاموس السياسي من بابه الواسع هذه الأيام وهو يستخدم هنا للإشارة إلى التطرف الديني الذي تمارسه
الجماعات المسلحة المنتشرة في مساحات واسعة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
وقد شكل هذا المؤتمر مناسبة لتقييم التجربة الموريتانية في محاربة التطرف العنيف وإبراز مظاهر نجاحها وقصورها في جوانب محددة ويتعلق الأمر هنا خاصة بالمقاربة الأمنية والحرب ضد الجريمة العابرة للحدود واستهداف البلد من طرف الجماعات المسلحة في الصحراء ومنطقة الساحل ولكن أيضا تجربة الحوار مع السلفيين والمراجعات الفكرية التي أدت إلى تغيير العديد منهم لقناعاته وعودته إلى جادة الصواب .
فمن جهة قادت العمليات العسكرية التي قادها الجيش الموريتاني بنجاح ضد الجماعات المسلحة في الصحراء إلى ما يشبه الهدنة غير المعلنة التي أدت منذ سنوات إلى تحصين التراب الوطني من أي وجود للجماعات المسلحة ووفرت الأمن للمواطن الموريتاني ولكن العارفين بالشأن الاستراتيجي يقرون بهشاشة الوضع في شبه المنطقة بالنظر إلى تواجد مكثف لهذه الجماعات وبوسائل بشرية ومادية لا بأس بها في عمق بعض الدول الفاشلة أو على حدودها ربما تمهيدا لتوسيع دائرة الحرب فيما بعد فعقيدة الحرب هي عقيدة مسيطرة على تفكير تلك الجماعات وأصبحت جزء من كيانها لا يمكنها أن تتخلى عنه.
صحيح أن هناك عاملا إيجابيا في هذه المسألة وهو دخول الجزائر على الخط في الحرب على الإرهاب في منطقة الصحراء لكن عدم وجود استراتيجية دفاعية مشتركة بين دول المنطقة وبينها وبين القوى الدولية في هذا المجال لا يزال تحديا يثير درجة معينة من القلق عند المهتمين بالشأن الاستراتيجي.
ونظرا لشعورنا بحجم المخاطر الأمنية في شبه المنطقة وعلى بلدنا بضفة خاصة والرسائل التي تحملها الحوادث المتكررة على حدودنا الخارجية فإننا سنحاول من خلال هذا المقال أولا توصيف التطرف العنيف من حيث هو ظاهرة فكرية عامة قبل التطرق إلى خصائصه وعرض الاستراتيجيات الدفاعية التي يتعين اتباعها للوقاية مما قد ينجم عنه لا قدر الله من زعزعة لأمننا واستقرار بلدنا.
إن تناول هذه الظاهرة الفكرية بموضوعية يقتضي توفر درجة معينة من الفهم قبل الحكم عليها فلا بد أن نفهم أولا طبيعتها وأسبابها والظروف التي ولدتها في الماضي والبيئة الحاضنة لها في الوقت الراهن في أبعادها المتعددة الأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية والتربوية.
يتضح من خلال الإمعان في مفهوم التطرف الديني بصفة عامة والتطرف العنيف بصفة خاصة أنه يتميز بعدد من الخصائص منها:
* عدم ارتباطه بالجغرافيا فهو يتحدد بالأيديولوجيا ولا يتحدد بالجغرافيا . و هذا الأمر هو مكمن خطورته لأن هذا النمط من التطرف هو عبارة عن عقيدة أو تصور يتقاسمه مجموعة من الأفراد أو الجماعات باختلاف انتماءاتهم فالذي يوحد بينهم هو تلك العقيدة الصارمة التي لا تعترف بالاختلاف ولا بالرأي الآخر : فالموريتانيون الذين ينشطون في هذه الجماعات يتقاسمون تلك العقيدة وتلك المبادئ التي وجدوها جاهزة ولم يساهموا هم في صياغتها فهم لا يدعون ولا يمكنهم أن يدعوا أن لديهم مشكلة عامة أو خاصة لا مع الشعب الموريتاني ولا مع السلطة القائمة . قد تكون لديهم أسبابهم الخاصة في اختيار الانضمام إلى تلك الجماعات لكن الاشتراك في العدوان على بلدهم وأهلهم لا يبرره إلا قياس فاسد على النحو التالي :
طالما أن موريتانيا جزء من العالم
وطالما أننا في حرب مع العالم
إذن فنصحن في حرب مع موريتانيا.
* الخاصية الثانية من خصائص التطرف العنيف هو أنه قائم على نوع من النزعة الوثوقية يسميه طارق رمضان "الوثوقية التلقائية" (le dogmatisme spontané) فالمتطرف يعتقد أن رأيه لا يوجد صواب خارجه وهذا يعنى غياب العقلانية في الطرح والقدرة على التفكير المنسجم المستند إلى قوة البرهان . فكل قول وكل فعل صادر من التطرف العنيف يستمد مشروعيته من تلك العقيدة أو من ذلك المبدأ الذي يؤمن به أفراد التنظيم جميعا ولا توجد أية حقيقة خارجه . وهذا يعني من الناحية المعرفية عدم وجود آلية داخلية للتصحيح الذاتي في هذا النمط من الأيديولوجيا : فرأيي دائما صواب ولا يمكن أن يكون صوابا إلا هو وأما رأي غيري فهو دائما خطأ ويجب أن يقبل رأيي دون قيد أو شرط لأنه هو الحقيقة وإلا فالحرب هي الحل ومن هنا تنبع الخاصية الثالثة من خصائص التطرف العنيف .
* الخاصية الثالثة هي فرض الرأي بالقوة . ومن هذا المنظور لا يمكن أن نميز بين تطرف عنيف وتطرف غير عنيف لأن الاستعداد الفطري لفرض الرأي بالقوة هو خاصية ملازمة للتطرف وهي التي يتولد عنها العنف سواء تعلق الأمر بالعنف المادي أو العنف الرمزي ولا عبرة بالتمييز بين هذين النوعين من العنف : هذه اللحظة هي التي يتحول فيها التطرف إلى إرهاب .
إلا أن ثمة علاقة وثيقة تربط بين التطرف باعتباره ظاهرة كونية فكرية عامة وبين المناخ الجيوبوليتيكي والإرهاب الذي تتعرض له الدولة القطرية مثل ليبيا والعراق ومالي ونيجيريا ...إلخ.
جيوبوليتيكيا الدولة الوطنية تدفع ثمن تصفية حسابات على أرضها بين أطراف لا علاقة لها بها لأنها ليست في الأصل طرفا في النزاع الدائر بين كليين متصارعين : الكلي الإسلامي الساعي إلى إقامة الدولة الإسلامية في حدودها القديمة بل وأكثر من ذلك انطلاقا من تلك العقيدة الصارمة و الكلي الآخر الكوني أو العولمي وما يحمله من تأحيد ومشاكلة للكوكب وفرض لأنواع معينة من التعبير الثقافي بالقوة على كافة الشعوب المغلوبة على أمرها ولكن أي من الكليين لا يمثل الدولة القطرية ولا خيارات شعوبها الطامحة في معظم الأحيان إلى العيش وإلى توفير جو من الأمان يمكنها من تحصيل الضروري من المعاش. لكن السؤال هو لماذا يتصارع الكليان على أرض الدولة الوطنية وليس في مكان آخر ؟
لهذا الأمر أسباب منهجية وأخرى واقعية .فأما الأسباب الواقعية فتتعلق عموما بإكراهات الجغرافيا بالنسبة للبعض وبمحدودية الوسائل بالنسبة للبعض الآخر.
وأما الأسباب المنهجية فيأتي في طليعتها أن الاستراتيجية "الدفاعية" للكلي الكوني العولمي تقوم على قاعدة أن نحارب الإرهاب خارج حدودنا قبل أن نواجهه على أرضنا . أما من ناحية الكلي "الإسلامي" فإن العقيدة "الجهادية" تقوم على أساس أن الحرب الحاضرة ليست إلا وسيلة وتمرينا للحرب المقبلة أي أن الحرب في ليبيا ومالي ونيجيريا واليمن والعراق وغيرها من البلدان ليست إلا وسيلة وتمرينا للحرب الكونية مع الكلي الآخر لأن المشروع الذي يسعى أصحاب التطرف العنيف إلى إقامته يتجاوز الدولة القطرية لكنه يمر حتما بها : فتحقيق ذلك المشروع الكبير وهو إقامة الدولة الإسلامية لا يمكن أن يتم دون الإطاحة بهذه الكيانات الصورية في أحسن الأحوال والعميلة في الواقع بحسب ما يراه هؤلاء للكلي الأمريكي ، الغربي أو العولمي لذلك هذه الأنظمة يجب أن تزول فحربهم معها ليست هي نهاية المسار وإنما هي مجرد استعداد للمنازلة الكبرى أو المعركة الفاصلة بين الحق والباطل كما يرى هؤلاء.
الدولة الموريتانية في الواقع هي جزء من هذه الجغرافيا السياسية التي ينشط بها التطرف العنيف بل توجد على نحو ما في محور الصراع : الشرق الأوسط الكبير بما في ذلك شمال إفريقيا وهي علاوة على ذلك جزء من دول الساحل فمن الطبيعي أن تتأثر بكل ما تتأثر به المنطقة.
وفي الحقيقة فإن التطرف العنيف والتطرف الديني بصفة عامة ظل ظاهرة غريبة على هذا البلد وسكانه وبالتالي فهو يندرج في ما نسميه بالتطرف ذي المصدر الخارجي . فلا نعرف للتطرف الديني سببا في هذه البلاد وبالتالي فإن نشأته ليست نشأة موريتانية والأطراف الفاعلة فيه بمن في ذلك الموريتانيين منهم ليست لديها مشكلة مع هذا البلد المعروف بالتسامح والاعتدال والبساطة في كل شيء سوى الاستخفاف بعقيدته وبحوزته الترابية.
والواقع أن بداية ظهور التطرف العنيف على المستوى العالمي كانت في ما يمكننا أن نسميه بقوة التأحيد ومشاكلة الكوكب وفرض النموذج الموحد من الحضارة وهو بالطبع حضارة الغرب الصناعي على المعمورة وهو الأمر الذي اقترن بعمد أو بغير عمد بطمس خصوصيات الشعوب والثقافات الأخرى بما في ذلك الثقافة العربية الإسلامية وروافدها الكثيرة في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط .
وهنا عندما نطبق ما تقوله القوانين الفيزيائية على هذه المسألة نقول إن الاصطدام يكون أقوى ومفعوله أكبر كلما كانت القوى متعادلة أو تميل إلى التعادل فنحن نعرف قوة الحضارة العربية الإسلامية في الماضي هذه الحضارة لا تزال موجودة على الأقل في ضمائر أصحابها ولا تزال تملأ الحيز الخاص بها وهو ما يعني فيزيائيا عدم اتساعه لمضمون جديد خاصة إذا كان يثير بفعل قوة المشاكلة التي يفرضها على العالم مشكلة الهوية والخصوصية الثقافية وبالتالي الانسجام والتعايش بينه وبين النموذج الحضاري القائم ويبشر برسالة حضارية تتعارض في بعض جوانبها على الأقل مع النموذج المذكور. هذا ما يفسر حدوث رد الفعل العنيف في منطقتنا وعدم حدوثه في أمريكا الجنوبية على سبيل المثال التي تعرضت للأسبنة والكتلكة ( ) منذ بدايات العصور الحديثة.
إذن من الطبيعي أن يحدث الصدام بين حضارة في أوج قوتها وحضارة لا تزال موجودة على الأقل في ضمائر أصحابها وتحاول الانبعاث بطرق متعددة . التطرف العنيف هو للأسف أحد تلك المظاهر التي تعبر بها هذه "الحضارة المتحدية" على حد تعبير صامويل هنتغتون عن مواجهتها للحضارة السائدة رغم اختلاف أسلوب التعبير هذه المرة عن الأساليب التي اتبعتها ذات الحضارة في الماضي وخصوصا في مراحل قوتها.
صحيح أن الحضارة العربية موجودة أيضا في الواقع وأن الفضاء "ممتلئ" و"مشبع" بالفعل وهو ما يعني على نحو ما عدم قابليته لاستيعاب مضمون جديد دون أن يؤدي ذلك إلى "الفيضان" أومجاوزة للحد على نحو ما يحدث في أماكن كثيرة من العالم بفعل زيادة المنسوب الثقافي الوافد وكثافته.
إلا أن المشروع الذي يحمله أصحاب التطرف العنيف وهو محاولة بعث الدولة الإسلامية ضمن حدودها التاريخية وربما أكثر من ذلك يختلف بصفة جذرية في مضمونه وفي أسلوبه عن المشروع الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية في الأصل. ذلك أن التشبع أو الامتلاء الحضاري لم يكن يعني للمسلمين في العصر الذهبي للدولة الإسلامية رفض الآخر الحضاري وأنماط تعبيره الثقافي بصفة تلقائية وساذجة كما يحدث الآن كما أنه لم يكن سببا للانكفاء المرضي على الذات كما هو الحال عند أصحاب التطرف العنيف في الوقت الحاضر .
وهذا يعني أن هؤلاء جاؤوا بنمط آخر من التفكير مخالف للنمط الذي قامت عليه الدولة الإسلامية في الأصل لأن الدولة الإسلامية كانت قائمة على التسامح ولم تكن قائمة على الغيرية الثقافية الجذرية فتعاليم الإسلام عندما يتم النظر إليها بشكل مجرد أي النظر إلى النص الديني في كليته وفي عمومية رسالته ودون اقتطاعه من سياقاته الكلية ومن دلالته الشاملة المتجددة باستمرار والمواكبة بفضل تجدد الفهم وأساليب الاستنباط عند أصحابها ، لكن أيضا وكما أشار إلى ذلك العلامة عبد الله بن بيه في ضوء تطور العلاقة مع الآخر الذي تحكمه المرجعية النصية من جهة والمصالح المرسلة من جهة أخرى - لم تكن أبدا ترفض التعامل مع الآخر والاستفادة من تجاربه بل إن الإسلام لم يختزل الإنسان في بعده الحضاري أو الديني وإنما تجاوز ذلك إلى قيم كونية كالرحمة والمودة واعتمدها دستورا ينظم العلاقة بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان وبقية المخلوقات على وجه الأرض.
وعليه فإن الإسلام لم يكن ذلك الدين المنغلق بل كان أكثر الأديان السماوية انفتاحا وتسامحا لا في دستوره فقط (القرآن والسنة) ولكن أيضا في سلوك أتباعه وتعامله مع غيرهم الأمثلة على ذلك عديدة : الحاضرة الإسلامية الوسيطية كانت حاضرة منفتحة على الحضارات وتتسع لكل الشعوب : طبقات العلماء والأطباء والرياضيين والفلكيين العرب وغير العرب المسلمين والمسيحيين والصابئة واليهود وغيرهم وكان الخلفاء يتنافسون في استجلاب العلماء والأطباء من الأطراف إلى المركز الذي كانت تمثله في ذلك الوقت عواصم الدولة الإسلامية: بغداد ودمشق وقرطبة.
يوحنا الدمشقي طبيب الخليفة الأموي وجد من التسامح ما مكنه من الدفاع عن أطروحات اللاهوت المسيحي والمجاهرة بعقيدة التثليث من داخل بيت الخلافة ولم يكن يجد من يتعرض له إلا بقوة البرهان .
هذا النموذج من التسامح هو الذي ساد به المسلمون على غيرهم لفهمهم هم فهما عميقا لرسالتهم الحضارية وعالمية دعوتهم ، ولشعور غيرهم بالاحترام والأمان في كنفها وأن دينا هذه فلسفته حري بالاتباع !
وعليه فإن الحاضرة الإسلامية قد استطاعت أن تجسد بالفعل النموذج الصحيح للحضارة القائم على التعدد والانفتاح واحترام الاختلاف بين الشعوب بل وأكثر من ذلك جسدت النموذج القائل بأن الحضارات إنما تنشأ وتعيش من الإسهام المشترك المتبادل وقوضت بذلك أسطورة التولد التلقائي للحضارة أو ما يسمى بـ (المعجزة الإغريقية) وهي الأسطورة المؤسسة للنموذج الكلاسيكي للحضارة الحالية.
ولا شك أن أحد الأسباب التي وصلت بها الدولة الإسلامية في الماضي إلى قوتها هو الاستفادة من تجارب الآخرين ونحن نعرف أنه تمت من خلال بيت الحكمة ترجمة علوم الأوائل وخاصة الفلسفة اليونانية والعلوم الهلنستية الرومانية إلى اللغة العربية . لكننا نعرف أيضا أن رسولنا و قدوتنا ودليلنا صلى الله عليه وسلم جسد هذا التوجه في سلوكه وكرسه نمطا من التعامل مع الآخر ومع الحضارات الأخرى بين أصحابه في مواقف كثيرة لا يتسع المقام لذكرها منها قبوله بالخبرة الفارسية في الحرب التي نقلها الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه عندما قال في غزوة الخندق "كنا قوما إذا خفنا تخندقنا" ...إلخ.
يبقى الآن أن نعرف الوسائل الناجعة للتصدي للتطرف العنيف وخاصة في بلد كبلدنا .
بما أن أكثر الخصائص التصاقا بالتطرف العنيف هي أنه يتحدد بالأيديولوجيا ولا يتحدد بالجغرافيا وبما أنه كوني النزعة لا يخص بلدا بعينه فإن وسائل القضاء عليه واستئصاله بالقوة وحدها تبدو في غاية الصعوبة إن لم نقل مستحيلة لهذا تحتاج دول المنطقة جميعا إلى بلورة استراتيجية إقليمية ودولية عامة تتضمن مقاربات متعددة : دينية واقتصادية - اجتماعية وتربوية وسياسية وأمنية تتكامل فيما بينها في أبعادها المحلية والإقليمية والدولية :
في المقاربة الدينية : يحتاج بلد كبلدنا إلى أخذ تهديد التطرف الديني على محمل الجد وأن لا ينصرف الذهن دائما عندما نتحدث عن التطرف العنيف إلى الخطر القادم من وراء الحدود بل أيضا إلى إرهاصاته وعوامل تشكله في الداخل والبيئات الحاضنة له مع الاستمرار في الحوار والمراجعات الفكرية مع ضحايا التطرف العنيف.
كما أن هناك حاجة ماسة إلى تطوير الخطاب الديني وخاصة الخطاب الفقهي الذي لم يعد يستجيب لمتطلبات المرحلة التي تعددت فيها وسائط المعرفة وأساليب الإقناع في حين ظل هذا الخطاب جامدا غير قادر على تجديد ذاته والخروج من شرنقة التقليد وخاصة بالنسبة للشباب الذين أصبحت تتجاذبهم تيارات التشيع والإلحاد والتطرف العنيف.
كما أن صحوة الخطابات الدينية التي تحمل بذور التطرف العنيف أصبحت تنتشر في بعض الأوساط وللأسف الشديد من بعض المنابر الدينية الرسمية فلا يعقل أن تظل بعض المنابر الدينية الرسمية وغير الرسمية منبرا للدفاع الصريح عن عقيدة التكفير ومحاولة إضفاء الشرعية عليها و إقناع العامة بها.
في المقاربة الاقتصادية-الاجتماعية : لا بد من العمل على تعزيز وتيرة الاندماج الاجتماعي والقضاء على ما تبقى من مظاهر التهميش والفقر والجهل والذي لا يزال يخيم على فئات كبيرة من المجتمع الموريتاني وسيظل دون شك بؤرة لإنتاج التطرف العنيف الديني واللاديني.
في المقاربة التربوية : لا بد من وضع خطة استعجالية لإصلاح المنظومة التربوية لتحصين أطفالنا -الذين هم مواطنو المستقبل- ضد كل نزعات الغلو وترسيخ قيم العدالة والوسطية والانفتاح على العالم وعلوم العصر واحترام الآخر الحضاري والاستفادة من تجربته في المجالات المختلفة في ظل الاحترام المتبادل والعلاقات القائمة على التكافؤ واحترام الخصوصية الثقافية لكل شعب من شعوب المعمورة.
المقاربة السياسية : تعزيز مناخ الديمقراطية في البلاد وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية لكي يشعر الجميع بأنه معني بالدفاع عن الوطن لأن من لا مصلحة له في بلاد تمنى زوالها.
المقاربة الأمنية : هناك بالطبع حاجة إلى تعزيز المكتسبات الأمنية وتطوير الخبرة في هذا المجال بفتح مجال التعاون مع البلدان الأخرى وتعزيز منظومتنا الدفاعية بالقوة الصلبة والناعمة معا وبالوسائل التكنولوجية الجديدة التي تقلل من النفقات التي تثقل كاهل الاقتصاد الوطني ومن الخسائر في الأرواح. وهنا فإننا نؤكد الحاجة إلى بلورة استراتيجية من الأمن الجماعي تشترك فيها دول شبه المنطقة وسائر القوى الدولية المعنية بالحرب على الإرهاب والتطرف العنيف. وطالما أن المشكلة جماعية ودولية فكذلك هو الحل لا بد أن يكون من جنس المشكلة. هذا الأمر يحتم علينا الابتعاد على الإقدام على الحلول المنفردة وتحمل أعباء مشكلة هي في الواقع مشكلة العالم أجمع.