لست بحاجة لأن أشرع مسترسلا في ذكر مناقب الشيخ الخليل النحوي ، ذلك أنه محفوظ ومعروف عندنا لهذه الشخصية البارزة ما يند عن الحصر من الأوصاف الحميدة والخصال المجيدة ، كما أنني لا أريد بهذه السطور العتب علي الشيخ الوقور فيما أراد وما قال في مقاله
(ماذا جنينا من سجن هؤلاء ) المنشور في المواقع الالكترونية بالتزامن مع محاكمة بيرام ورفاقه في آلاك ، بل أريد فقط أن أنبه إلي أنه يصلح للشخص العادي مثلي مالا يصلح لقامة سامقة مثله . معني ذلك أنه يصلح لمجرد رجل سياسي عادي أن يسجل تعاونه مع سجين ما خصوصا إذا كان ناشطا في مجال حقوق الإنسان ، وله دور في المشهد السياسي ، فيطالب بإطلاق سراحه ، رغم اختلافه معه في بعض المواقف ، الأمر الذي سيكون له أثر بالغ ـ إيجابيا ـ في نفس السجين ، يعول عليه الغارق في أمواج السياسة المتلاطمة ، ويريد أن يجني ثمرته متي ما أطلق سراح السجين ، ولا يصلح مثل هذا لمثل شيخنا جل مقامه عنه ، كما أنني هنا لست ضد إطلاق سراح بيرام ورفاقه ، لأن الحرية نعمة يتمني كل امرئ دوامها إن كان طليقا ، أو حصولها إن كان سجينا ، وكنت أعلم أنه لا يصح إيمان أحدنا إلا إذا أحب لغيره مايحب لنفسه ، ومعني ذلك أنني لا أتمني لبيرام البقاء في السجن ، بقدرما أتمني أن أراه طليقا حرا معافي في بدنه وعقله وسلوكه وفكره ، ونشاطه السياسي كي لا أختلف ـ حتي ـ معه في شيء .
إنما أريد التنبيه إليه هنا وبحسن نية ، هو ضرورة ألا يقع منا سوء وإضرار بالمصلحة العامة دون قصد، في الوقت الذي نسعي إلي تحقيق هذه المصلحة ، فقد بين شيخنا العلامة النحرير أنه لايجوز أن يتدخل أحد في سير عملية التقاضي إلا إذا تأكد من خلو تدخله من أي شائبة تنحو به إلي عكس ما يريد من مصلحة . ذلك بين من خلال المنفذ الذي دخل به شيخنا عملية التقاضي الجارية في ألاك ، حيث وجد في الاستثناء الوارد في الأية الكرية (لاخير في كثير من نجوكم إلا من أمر بصدقة...) ذلك المنفذ الآمن للدخول في قضية معروضه علي القضاء ليبدي رأيه فيها ويطلب إطلاق سراح السجين فيها ، وهي العملية التي شابها عندي بعض الملاحظات التي أردت التنبيه إليها ، حتي لا يستشعر الرجل العادي أن حصولها مع شخصية بارزة مثل الشيخ الخليل النحوي ، يعني أنها مقبولة وشرعية وأنها صواب لا خطأ فيها ، ساعيا إلي تبيان ما يلي :
أن الخطأ يظل خطأ بغض النظر عن من قام به ،فلا تؤثر في حقيقته حقيقة فاعله ، وأن المعصوم من الخطأ هم وحدهم الرسل والأنبياء أما غيرهم فخطاؤون وخير الخطائين التوابون ، والاعتراف بالخطأ فضيلة كما يقول الحكماء ، وأنه مادام كل الناس خطاؤون فلايقدح الخطأ في كرامة المرء ولايحط من قيمته مجرد حصوله منه ، وإنما يحصل ذلك بالتمادي ، و بالاعتراف والتراجع عنه يحصل العكس،ومما لاحظت في مقال الشيخ العلامة مايلي:
1 ـ أنه اعتبر الاستثناء في الآية السابقة الذكر منفذا يشرع له التدخل فيما أقر من قبل أن الدخول فيه حرام أو ممنوع ، لكن شيخنا لم ينتبه لطبيعة التدخل وأنه مما يسر به ، وهو مالم يحصل في تدخل شيخنا حيث نشره في وسائل الإعلام ، وكان بمقدوره أن يسر به إلي أحد ممن يمكنهم أن يوصلوه إلي القاضي وأعوانه ، ويكون حينئذ قد أمر بصدقة أو طلب معروفا .
2 ـ أنه اعتبر التزكية مرة براءة من أي قادح يأتي لاحقا ، والمنطق لايقر بذلك . ففي آخر الزمان يصبح المرء مؤمنا ويمسي كافرا ، ويمسي كافرا يصبح مؤمنا . فما بالك بمحمول هذه القضية ،فقبول ملف بيرام للترشح للرئاسيات لايعني أنه لن يخطئ بعده خطأ فادحا ... فمثل الناشط السياسي (الحقوقي) بيرام يكتفي منه بمجرد التلميح إلي ما يلحق الضرر بالوحدة الوطنية فيعاقب عليه وفي ذلك اعتراف له بقيمة معينة لا تحسد له، أما غيره فلا تضر منه المجاهرة بذلك المنكر ، وقد اعتبر شيخنا أن نفس الكلام والمصطلحات والألفاظ التي كان يطلقها بيرام قبل وأثناء ترشحه للرئاسيات الماضية ، أنها ظلت هي هي وأنها هي السبب في اعتقاله مؤخرا . بصراحة أجد في هذا الكلام عدم تقدير لدقائق الأمور وعدم اعتبار للزمان والمكان ، وهو الأمر الذي تسهر السلطات الأمنية عليه علي الدوام حيث تختلف رؤية الفرد في مسألة عنها عند هذه السلطات التي تنظر بعين العامة والمجتمع كله ، فيكون الأمر حسب رؤية الفرد صوابا سليما ، لكن إذا نظرنا إليه برؤية جماعية يكون خطأ وقد يكون فادحا ويكون الصواب هو عكس تلك الرؤية الفردية، وهذا هو ما قد يكون حصل بين رأي القضاء ورأي شيخنا حول سجن بيرام ورفاقه.
3 ـ لم يبق تدخل شيخنا في هذه القضية ،سليما مباحا لذلك ، بل نجد نبرة قوية تعيب علي طرف وتشجبه وتهينه بإبراز ما يري أنه تناقض وإسقاط ميكانيكي للأحكام علي والقائع دون مراعات المقاصد والمآلات .والواقع أن شيخنا قد أطلق العنان لنفسه في هذا التدخل وكأنه يبحث في أصل لا في استثناء ، وإن كان قد راعي المقاصد (مهما كانت ) فإنه لم يراعي المآلات ، فما قال يعني التشكيك في مصداقية القضاء في البلد ... وعندما تنبري شخصية وازنة في البلد لتقول به ، فإن ذلك يعني إدخال القضاء في اللعبة السياسية ، وتحريض العامة علي أن تعتبر القضاء غير نزيه ، فلا تنزجر بأحكامه معتبرة أنها ظلم وجور، وتسقط هيبته ، وحينها لن يكون هناك إلا حكم جائر يصدر عن قضاء غير نزيه ، فيضيع مقصد الزجر والتهذيب الذين يتوخاهما القضاء من إنفاذ الأحكام .
4 ـ لم ينتبه شيخنا إلي اختلاف الحال والزمان والمكان في هذه القضية عن سابقها أيام خوض غمار الانتخابات الرئاسية الماضية ، فمن المعلوم أن بيرام ورفاقه سجنوا علي خلفية المشاركة في تظاهرة أراد لها أصحابها أن تكون دعوة فعلية لانفصال جنوب البلاد (الولايات الجنوبية ) تكريسا لدعوة عرقية وعنصرية مقيتة ، ومن المعلوم بأن خطاب بيرام كان قبل وأثناء الحملة الانتخابية مليئا بالعبارات النابية المفرقة لكيان المجتمع إلي بيض (بيظان) وسود (أحراطين) .
إن الفرق بين الأمرين دقيق جدا ، ولكنه واضح أيضا ، خصوصا عند أهل العلم والمعرفة ، فخطاب بيرام في الانتخابات هو كلام ولو كان فيه دعوة للتفرقة فإنه يظل خطابا لا تأثيرله ولذلك لم توقف الدولة بيرام بسبب ذلك الخطاب العنصري لأنه كما قال اسبينوزا مجرد الكلام لاتأثير له ، ولذلك لاتحد الدولة الديمقراطية من حرية صاحبه ، أما إذا تعدي الفرد الكلام إلي الفعل فإنه يصبح بذلك خطرا يهدد أمن الدولة وسلامة المواطنين ويجب عند ذاك أن يوضع حد لحريته، ومشاركة بيرام للداعين إلي انفصال جزء من البلاد علي أساس عنصري ، في مسيرة جابت المناطق المطلوب انفصالها وتوقفت في المكان المطلوب أن يكون عاصمة جديدة للمناطق المنفصلة ، يعتبر فعلا في ذلك الاتجاه وليس مجرد كلام ، ويستوي في ذلك أن كان يريده فعلا ، أو كان يريد به فقط تدعيم ومساندة أصحاب تلك الدعوة بحجة أنهم حقوقيون يتعين عليه مساعدتهم .
إذا فحال مشاركة بيرام في هذه المسيرة يعتبر فعلا حقيقيا وخطوة جدية في الدعوة إلي انفصال بعض البلد عن بعضه وليس كأي دعوة باللسان ،ويجب وضع حد له ،فحال نشاط بيرام هنا ليس واحدا ، فقبل المسيرة التي اعتقل فيها ، كان خطابا ، وبمشاركته في المسيرة أصبح فعلا . وإذا كان الاكراه البدني (السجن) حسب شيخنا ليس الوسيلة الأمثل لمعالجة هذه القضية ، فإنه لم يقدم لنا بديلا.
أما الزمان فغير واحد حيث لم تكن هناك أيام الانتخابات الرئاسية دعوة صريحة لانفصال المناطق الجنوبية عند الدولة ، أما التحضير لتلك المسيرة فكان خطاب الانفصال طاغيا والدعوة للمسيرة يعتبر فعلا في اتجاهه ، فلم يكن ذلك الوقت بالوقت المناسب لعدم حقوقي مهما كان نضال حقوقي آخر ومساندته خصوصا في مسألة يعرف الجميع أنها تخل بأمن واستقرار البلد .أما المكان الذي انتهت إليه المسيرة المعبرة عن عنصرية واضحة ،وهو المكان المختار... ليكون عاصمة لبلد أو دولة جديدة ، فهو مكان غير مناسب لإظهار تعاطف بيرام مع أصحاب التظاهرة،فكان علي بيرام ورفاقه إن أرادوا تشجيع حقوقيين آخرين أن يظهروا معهم مثلا في انطلاقة مسيرتهم ، ويتركوا المواصلة معهم في بقيتها ـ لينتهوا إلي مكان له معني خاص ـ إلا إن يكونوا قد أرادوا ما أراد المتظاهرون .
إن تقدير هذه الأمور يفوت بعضنا ، وقد يفوته بعض منا ، أما البعض الآخر منا ، فلا يفوته ولا يفوٍتَه أبدا. أما الذين يفوتهم فهم الناس العاديون مثلي وبعض رموز البلد بحسن نية ، وأما الذين يفوتونه (يتغافلون عنه ) فهم بعض سياسيينا في المعارضة ، وأما الذين لايفوتهم ولايفوتونه فهم أجهزة أمن الدولة والوطن ،وفي الأخير يجدر بنا أن نسأل ماذا جنينا من دعوة إطلاق سراح هؤلاء؟ من قبل شخصية وازنة في البلد (شيخ تربية،فقيه وعلامة نحرير ، أديب وشاعر ، ودبلوماسي ) ماذا جنينا من تلك الدعوة غير أنها اعتبرت عند الذين لايفوتون فرصة لزعزعة أمن واستقرار البلد اعتبرت فتوي شرعية وسياسية ودبلوماسية ، للتشجيع علي إسقاط هيبة القضاء في بلدنا ، وإدخاله في السياسة ومتاهاتها، بعد أن صلب عوده علي الاستقلالية والبعد عن المؤثرات السياسية.