عندما حولت تعسفا إلى أطار سنة 1964 كان من أعز أمنياتي أن أرى أحد أعظم أطوادها؛ ألا وهو السيد همدي ولد محمود. ولكن أمنيتي لم تتحقق؛ فقد انتقل الرجل العظيم قبل ذلك بزمن إلى جوار الله ورحمته. ومع ذلك فقد ألفيت ذكره الطيب يملأ الدنيا ويشغل الناس، ووجدت أسرته الكريمة
النبيلة تتصدر محافل وأندية المدينة. نعم لقد أدركت السيدة الفاضلة الكريمة السالكه بنت ابدبه أم تلك الأسرة السعيدة، والزعيم هيبه ولد همدي أحد قادة السياسة والرأي في موريتانيا الجديدة، ومحمد محمود ولد همدي القائد في الدرك الوطني رحمه الله، وبنات همدي السيدات الطيبات الفاضلات، وما أدراك ما بنات همدي.. أمهات الموريتانيين الأمجاد من جميع نواحي وأطياف الوطن! أما محمد سعيد فكان يخطو خطواته الأولى في دنيا الصحافة الوطنية في نواكشوط، أو يختتم دراسته خارج البلاد، بينما كان الأغظف رحمه الله وربيعة أطال الله عمرها ينشطان في الحركات المدرسية الناشئة.
كان عبق النهضة الوطنية يفوح من جنبات ذلك البيت الكريم الذي أنجب بعض قادتها وآوى فتيانها الرواد وصدحت منه نغمات نشيدها الوطني العذب "هذا آخر نومنا بلادنا لا تشتكي".. كما غمره أريج فجر الاستقلال الوطني الذي أطلعه الحزب التقدمي الموريتاني، حزب النخبة الوطنية بقيادة الرئيسين المختار ولد داداه وسيد المختار انجاي ابن وصهر همدي. وكان كرم همدي الحاتمي وإنفاقه في سبيل الله وسؤدده وسلطانه تسير بها الركبان.
جاشت هذه الذكريات السنية في نفسي حين فاجأني نعي صديقي الودود محمد سعيد ولد همدي رحمه الله.
لم أعرف الفقيد خلال تلك الأيام الجميلة لأنه لم يكن في أطار يومئذ، ولأنه كان أقرب في حركات الشباب التي تلت أفول النهضة إلى التيار البعثي وبعض الناصريين المهادنين للسلطة يومها، ثم التحق مبكرا بالعمل الدبلوماسي وغيبتني أنا السجون والمنافي. ولكنه روى لي فيما بعد أنه كان هو والوزير محمد محمود ولد ودادي أطال الله عمره وراء إعلان الحداد على الزعيم جمال عبد الناصر رحمه الله حين قررا على مسؤوليتهما - لما علما بوفاته- قطع برامج الإذاعة الوطنية وبث القرآن الكريم قبل أن يصدر قرار رسمي بذلك.
والتقينا في سنوات الجمر، وخصوصا إبان الحرب الاستعمارية القذرة على العراق، فخضنا حملات التظاهر والتنديد بها، وكتبنا مع آخرين رسالة مفتوحة شديدة اللهجة إلى الرئيس الفرنسي ميتران نذكره فيها وننذره بأحقية وضرورة انحياز فرنسا وأوروبا إلى العالم العربي وإفريقيا بدل الانجرار وراء مغامرات أمريكا الفاشلة الدنيئة المدمرة التي لن تنبت زهرة واحدة في حديقة الديمقراطية والحرية، أو تنجب سلما أو عدلا أو نماء.
وإن أنس لا أنس يوم زارني في مستشفى لا بيتيي سال بتريير بفرنسا أيام حادثي الأليم سنة 2002 وكيف حنا علي حنو الأخ على أخيه، وأهداني ترجمة عربية لكتاب صراع الحضارات ما زلت أحتفظ بها للذكرى حتى هذه اللحظة.. وقد أدمن وهو القومي العربي المتضلع بالفرنسية قراءة مرافعاتي خلال تلك السنين العجاف بشغف وتدبر.
كان سعيد مكتبة ومتحفا وأرشيفا، وكان لا يسأم البحث والجمع والتدوين، ومن شيمه أنه لا يؤرخ نصا أو حدثا إلا بالتاريخ الهجري أولا، ثم يتبعه التاريخ الميلادي.
... وانتصرت إرادة الشعب الموريتاني بعد كبوته ووهدته الطويلة، فكنا جنبا إلى جنب في مسيرة إعادة التأسيس التي أطلقتها حركة 3 أغسطس 2005 المجيدة. وكم كنت سعيدا حين عينوا سعيدا على رأس أول لجنة وطنية لحقوق الإنسان رغم هشاشتها ومحدودية حيز عملها يومئذ وضعف حصيلتها.
... ثم اختلفنا، لا على الحقوق؛ بل على ممارسة تلك الحقوق، وعلى الغايات والوسائل، وترتيب مهمات المرحلة التاريخية التي يمر بها وطننا... وتفرقت بنا الدروب. ومع ذلك، فقد ظل الود صافيا بيننا كما هو ظاهر في الصورة..
فنحن الذين نحمل هم الوحدة الوطنية في قلوبنا وعقولنا ونفديها بأرواحنا، والذين تحممنا بجامعة همدي شِيخ البيظان بلا استثناء وجوادهم وغوثهم وأبي العديد من أسر أشرافهم وسراتهم، نعي جوهره الكريم وهويته الموريتانية الحقيقية دونما لبس، ولا يمكننا أن ننكر على فرع من أرومته كائنا من كان وأيا كان مشربه.. أحرى إذا كان سعيدا وودودا.
رحم الله محمد سعيد ولد همدي وألهم ذويه وأصدقاءه الصبر والسلوان، وبارك في خلفه ورحم سلفه إنه سميع مجيب.