ونمضي في الاستقراء والبحث.
ولنرجع قليلا إلى الطرق الفكرية التي اعتمدناها في هذا البحث ولنأخذ الطريقة المتبقية بعد أن طبقنا الطريقة العقلية والطريقة العلمية:
يقول علم النفس التربوي: الكلام صفة لنفسية المتكلم:
بمعنى أن الطبيعة الإنسانية تتجلى في نفسية المتكلم، لذالك نجد أن المحققين يستعينون لاكتشاف خفايا نفسية المتكلم لاسترجاعه إلى الحديث لاستزادة من الكلام.
هذه حقيقة علمية تدرس في علم النفس التربوي. ونظرا لأن الإنسان بشر مطبوع بالصفات البشرية المعروفة, فلا شك أنه عندما يتكلم تتجلى صفاته البشرية الإنسانية المختلفة من خلال كلامه..(97).
بالرجوع إلى الافتراض السابق القائل: (إن القرآن كلام بشر) فيجب إذن أن تتجلى في هذا القرآن صفات البشر طبقا لهذه القاعدة العلمية. بمعنى أن يكون القرآن مرآة للطبائع الإنسانية المختلفة, تماما كما يتكلم أي إنسان أو أي مؤلف كتاب، ولكننا عندما نقرأ القرآن ونلتمس فيه أي معلمة أو أي مظهر مما يتصل بالطبائع البشرية من صفات لا نجده.
فعلى سبيل المثال نقرأ في القرآن:
﴿ أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون, وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم، وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون﴾ (98) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون﴾ (99)..وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون. كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون﴾.(100)
هذه الآيات القرآنية ما من عاقل يقرؤها أو يصغي إليها إلا ويجد أنها تختلف عن الأفكار الإنسانية وطبيعة الإنسان ومهامه، وشؤونه، حيث أن الإنسان عادة ما يتحدث عن أشجانه، عن آماله، عن طموحاته، عن تجارة له، عن اهتماماته، وعلاقته بالآخرين.
عن أعدائه وموقفه منهم عن أحبائه وأصدقائه، والصلة التي بينه وبينهم، يتحدث عن آماله في بناء أسرة، وفي جمع المال، عن آلامه التي تتعلق بجسمه أو التي تتعلق بأمور أخرى، عن أمنه عن طمأنينته، أو عكس ذالك..هذا ما يتحدث عنه الإنسان أيا كان.ومن غير المعقول أن يتحدث في موضوع خارج عن دائرته الإنسانية وإذا أراد لا يستطيع..
فالمخلوق ليس من شأنه أن يتكلم ويجعل من نفسه خالقا، المخلوق الذي خلق بالأمس وسيموت غدا ليس من شأنه أن يقول خلقت النجوم بالطريقة التالية..وأبدعت السماوات على النهج كذا.. وأنا سأفعل بالخليقة الإنسانية كذا ..
إن هذه الآيات تتحدث عن مهمة أخرى ووظيفة أخرى لاعلاقة لها بأفكار الإنسان ومهامه وشئونه نهائيا. والملاحظ أن الموضوعات التي طرقتها ليست مما من شأنه أن ينسبه الإنسان إلى نفسه أو أن يدعيه لذاته.
في حين نرى الخطاب الإلهي هو الذي ينسب هذا الكلام إلى ذاته بلا منازع بدليل الضمير ﴿ ففتقناهما﴾ ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾.
ومن المعلوم في دنيا العلوم اليوم أن هذا القانون الأخير من أعظم وأوسع وأضخم القوانين الكونية, وهو القائل: إن كلما يتسم بالحياة لا بد أن يكون الماء هو العنصر الأساسي فيه..
وفي الآية الأخرى:﴿ وجعلنا في الأرض رواسي﴾ يتكلم عن صنعته والرواسي هي الجبال. ﴿ وجعلنا﴾ ينسب هذا المتكلم هذا الأمر إلى ذاته.(101) والمخاطب هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يقول:
﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون﴾(102)
﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالخير والشر فتنة والينا ترجعون﴾ (103)
يتكلم عن قانون من القوانين الاجتماعية السارية منذ بدأ الخليقة إلى يوم الناس هذا.
﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة﴾ أي: امتحانا وابتلاء
﴿ وإلينا ترجعون﴾ ولسنا بحاجة بعد هذا إلى بيان مدى تقبل العقل مما يقال بأن القرآن كلام بشر حيث أنه لا يمكن لعاقل أن يتصور أن الذي يقول:
﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون﴾.
﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ ﴿ ونبلوكم﴾ ينسب هذا إلى نفسه ﴿ بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون﴾.بدليل قوله﴿وإلينا ترجعون﴾؟ لأنه لا يعقل أن يقول الإنسان أن البشرية سترجع إليه؟! الإنسان الذي خلق قبل سنوات وسيموت غدا فتح عينيه على هذا الكون وطرح الأسئلة منذ نضوجه من أنا؟ ما هذا الكون ؟!! وإلى أين المصير؟!! هل يمكنه أن يقول الكلام السابق، من إبداع الكون، والخليقة؟! والجواب أن العقل لا يمكنه أن يتقبل هذا الإدعاء. وإذا لم يكن هذا الكلام كلام بشر إذن ما المعنى الذي يشع به هذا الكلام؟!..يتواصل...