عقلية "العصاباتية" في الدولة منذ الاستقلال / الولي ولد سيدي هيبه

و فيما تظل البلاد دون أدنى مستويات التحضر المدني المطلوب في بنيتيها الشكلية من حيث قيام البنى التحتية و الانتعاش الاقتصادي على خلفية الصعود إلى التصنيع في حلته التحويلية أولا دون سواه، تظل ذهنية شعبها موغلة في التخلف الفكري و عاجزة عن استقطاب مفاهيم العصر بحلته المشعة بأنوار 

العلم و وسائل الانفتاح و التحلي بفضائلها الجمة على ضوء ما توفره من حريات متوازنة و استعدادات علمية للعطاء و البناء و التشارك و الشراكة و التبادل  و الإثراء.
و لإن استطاعت البلاد الناشئة منذ ما يربو على نصف قرن تزيد سنينا ـ بمباركة من الاستعمار الذي كان جاثما على البلاد رغم علات قيامها العديدة و ضعف منطلقاتها ـ أن تدفع بالكثير من أبنائها إلى تحصيل العلم و المعارف في جامعات الخارج و معاهده و أن تشكل من أكثرهم تنويرا نواة الدولة المركزية لضبط الجميع و طلاق بين من واقعَ فضاء اللادولة و لا قانون. و لكن هذه الانطلاقة التي بدت سليمة من حيث الشكل و السياق و الإطار و التي قدمها الاستعمار منحوتة من شكله و مستوحاة مضمونه و لصالح منهجه النموذجي المعمم على كل مستعمراته، لم تسلم من مفهومية البنية الاجتماعية التي كانت قائمة فاحتوت ضمنيا الدولة الناشئة و نخرت كل أسباب ديناميكيتها و أضعفت كل نسقية قيامها عموديا لشل أركانها و أفقيا اتساعها لمفهوم المواطنة الحقة و المدنية الراقية المبنية على خلفية العدالة الاجتماعية و قوة القانون.
قد يكون في تكرار التذكير المرير بهذا الواقع المختل ما يجعل البعض ممن يحسبون أنفسهم على الثقافة و التنوير يضجرون و هم يسبحون في بحور سراب الغبطة بذلك و الواقع من حولهم فوضى و يبابا. و لكن لا مناص من التذكير لأنه وحده الذي قد ينفع حين الغرق و البحث عن الخلاص في أحلك الأوقات التي تخرج من رحم زمن التأزم و التخبط في عشوائية اللاوعي و اللامدنية.
و إن هؤلاء المتنورين و أشباههم ممن تفرزهم"زرافات"
ظروفُ حكم البلاد المتغير من حال إلى حال و من مدني إلى عسكري من دون أن يسلم المدني من حضور العسكري و لا أن يسلم العسكري من تنظير المدني في قدرية التكامل على خلفية الفوضوية "الماضوية" بتركيبتها التي لا تأبه بالتحول الحاصل في العالم من حولها.
و لا غرابة في ظل رسوخ هذه القاعدة أن يكون الحكم عبر كل الفترات المتتالية "عصاباتيا" إن جاز التعبير أو "مفيوزيا" بعبارة أكثر ملامسة لفهم العصر يختلط في تركيبة كل عصابة تمر جوهرٌ من القبيلة المتقدمة الركبَ و القبائل و زعامات "إثنيات" البلد الممسكة معها بالتيار الزمني العابر. و لا عجب في أن تطفو على السطح من تلك الوضعية القائمة "بارونات" أعمال و سادة مال و سدنة حكم يتقاسمون كل مناصب الحظوة و التمكين و الجاه و يتحكمون في كل مصادر المال و الأعمال و يجرون الاقتصاد الخائر إلى مدارك حظائرهم فيغيبونه من على مسرح الوطن و يشعلونه قنادلا و شموعا يضيئون بها ساحات كبريائهم الخلفية .
و لا غرابة بالنتيجة أن تظل قضايا تهميش شرائح الشرائح ضمن أرستقراطية قبلية مزمنة و الطبقات  الدونية في أسفل هرم التراتبية و كبت صوت أنينها المتصاعد، ديدن الواقع المرير في ارتقائه بالقلة المتخمة بالمال العام في سهولة و سرعة الثراء الفاحش و حشره للغالبية بصمت و رتابة في زاوية التهميش و تعمد النسيان، و لا أن يظل الوعي المخلص فريسة الكبت و تعمد التجهيل و التغييب من خلال:
·        التفعيل الارتكاسي للإعلام ألانتمائي، الموجه، الربحي، النفعي و التلميعي من ناحية،
·        الزج بالأطر الثقافية القليلة ـ المفتقرة إلى شحنات العطاء و دوافع الإبداع ـ و المتعثرة في خلافات سفسطية تتغذى على خرخشات "السيبة" المستمدة ذاتيا من ذهنيتها الحاضرة بقوة.
و إنهما للإطاران الإعلامي و الثقافي اللذان لم يسلما منذ تشكلا بعيد الاستقلال من "العصابية" في روحيهما و في حركتيهما و ضعف إنتاجيتهما و في ميوعتهما و عجزهما عن التحرر من قوالب الماضي شكلا و مضمونا من ناحية، و عن مجاملاتهما الغرضية و كبريائهما الزائدة حتى ضيعا على العموم كل أسباب الإبداع و تسببا في تآكل ساحة الإنتاج و أفسدا متن رسالتيهما اللتين لا سبيل إلى تقدم بدونها و كادا يحجبان الرؤية عن جيل الشباب الذي أبان عن طاقات فائقة و قدرة فريدة على تخطي عقبة من كان يفترض بهم أن يكونوا القدوة و ينقوا الدرب من أشواك "الألف ميل" الأولى من نقطة انطلاق ماراتون التحول.. جيل لا محالة سيرد للثقافة و الإعلام أحرف نبلهما و حيويتهما لخير المسار و توازنه في وجه ما يحيط بالبلاد من مخاطر جمة قد زادها حدة غياب الثقافة و ميوعة الإعلام.
و أما مهمة البناء و التشييد فلن تكون إلا أن تهاب الدولة من خلال ترسخ مفهومها في الذهنيىة الشعبية و تدبير مقدراتها بإحكام بعيدا عن غلبة النظم المجتمعية المناقضة لروح المدنية و لسياق العدالة الذي يطبعها و يميزها. و على العكس من هذا المنطق فإن الإبقاء على القوالب الحاصلة ـ و التي تبدو مقبولة أو قل مسلما بها دون استنكار مطلق أو عمل إجرائي رافض متخذ ـ دربا حتميا من القضاء على مقدرات البلد و سلبا ممنهجا لخيراته من لدن أقلية يفرزها شطط الجمود على قوالب بالية و يباركها خمول و استسلام مرضي مزمن لا بد أن يقرأ أهله يوما قولة ماكسيم غوركيMaxime Gorky  "خلقنا لنعترض".

29. أغسطس 2015 - 18:25

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا