قصتى مع شاب من قبيلة الرئيس..!! / د.عبدالرحمن سفيرسابق

(تعرفت عليه قبل أشهر في ضحى جمعة أوقفت فيه سيارتى بساحة واسعة جنوب سوق
العاصمة ، دخلت السوق لبعض حاجتى وعند خروجى وأنا أهم بركوب السيارة  لفت
انتباهى عنوان على واجهة أحد المحلات :(المكتبة الإلكترونية) .. أين رأيت

هذا العنوان من قبل؟  إنى أعرف هذا العنوان وليس غريبا علي.. وأراه دائما
.. ولم يطل تفكيرى إذ تذكرت أن هذا العنوان موجود على حاسوبى الشخصى
كشعار وخلفية لبعض المواد الصوتية والكتب العلمية ، فقررت أن أزورهذه
المكتبة إذ صادف ذلك أن كان عندى في السيارة حاسوب جديد أريد تنزيل مواد
عليه ، مبرمج على لغة لا أفهمها ربما تكون الروسية ، أخذت الحاسوب معى
وصعدت للمحل فى الدور العلوي من السوق ، ودخلت فوجدت شابا فى الثلاثينات
عندما رآنى قام من مقعده وصافحنى بلطف وبشر ومودة وهو يبتسم ويرحّب حتى
خِلتُ أنه يعرفنى كما أعرف شعارمكتبته  وأشار لمقعد خلفي فقربته منه
وجلست ، ثم جلس وبدأنا نتحدث اسمه ابراهيم ولد لعويسى وقدمت له نفسى
د.عبدالرحمن كشخص عادى دون ذكر تفاصيل أخرى تجنبا للتكلف ، ولأنى فى موقف
معاملة بعيدا عن الرسميات..

كان الحديث بينى وبين الشاب ينساب بشكل طبيعى وكأننا أصدقاء منذ عشرات
السنن ، قلت : إنى لاأرى فى محلك غير جهاز كمبيوتر وساحبة أوراق وبضع
عشرات أسطوانات السى دى، فقال لى : هذا الكمبيوتر يحوى أكثر من أربعين
ألف مادة علمية وتعليمية مسموعة ومرئية وعشرات آلاف الكتب المقروءة
والمسموعة فى مختلف أنواع العلوم، فهذه هي المكتبة الالكترونية، وعرضت
عليه حاسوبى فوجدته يعرف كل شيئ تقريبا عن الكمبيوتر وبرمجته وبرامجه ،
وكان ما يُميّزهُ أنه لايحتكر معلومة ولاينظر نظرة مادية ، فوجدتها فرصتة
لأجلس بجانبه ساعتين تقريبا ولأمطره بعشرات الأسئلة ، تدفعنى لها رغبة
قديمة فى حب المعرفة والتعارف والمغامرة والإستطلاع...

أرتحت للشاب وألفته سريعا ، وبدى هو أيضا مستمتعا بأسئلتى وهو منهمك فى
فرملة الحاسوب قلت له أين درست الكمبيوتر أجاب مبتسما : فى (مرصت كبيتال)

- تقصد أنك تعلمته بمجهودك

- تقريبا

بعدها وعيناي تتفحص ما حوله لحظتُ تحت مكتبه وجودَ عشرات كتب اللغة
الانكليزية وروايات نجيب محفوظ والمنفلوطى مطبوعة ورقيا ، مما استثارنى
أكثر لأسأله عن دراسته وحياته، أخبرنى أنه حصل على باكلوريا علمى سنة 98م
، وأعاد المشاركة فى السنة الموالية للحصول على منحة دراسية فى الخارج ،
فنجح للمرة الثانية لكنه لم يتمكن من الحصول على منحة ، فسجّل فى جامعة
نواكشوط قسم اللغة الانجليزية ، ولم يستطع مواصلة دراسته بعد سنته الأولى
لظروفه المادية ، فأضطر لترك الجامعة والعمل مع صاحب مكتبة بمرتب زهيد ،
ثم أضطر للزواج لاحقا ،ثم عاد للجامعة بعد سنوات فرفضوا قبوله بحجة أن
شهادته أصبحت قديمة ، فسجل فى المعهد العالى للدراسات...

وعند ذكره للزواج لم يدر أنه فتح لى بابا لم أضيعه فعاجلته متسائلا :

-        حدثنى عن الزواج متى تزوجت وكم كان عمرك ؟

-        تزوجت سنة 2001م وكان عمرى 22سنة

وكان يرد على أسئلتى بتركيز ودقة وهو منشغل بالحاسوب وتثبيت البرامج عليه
، ويداه تعملان فى أزراره بدقة فائقة ، وكان يحدثنى ببساطة وعفوية كأنى
صديقه المقرب ، مما شجعنى على طرح مزيد من الأسئلة

- كيف حصلت على المال للمهر والزواج ولتملك هذه المكتبة؟

- بالنسبة لهذه المكتبة أشتريتها بمائة ألف أوقية أقرضتها من شخص بعد جهد
،وحصولى عليها له قصة أخرى ليس هذا مقامها  أما الزواج فقد كنت مضطرا له
فى تلك الفترة رغم صعوبة الظروف لعدة أسباب ، ثم سكت فقلت:

- أذكر لى احدها إن شئت

- كنت أريد أن أجد مكانا أبيت فيه

- أين كنت تبيت قبل زواجك

- في المسجد...

ثم قال على إثر ذكر المسجد

-        إن وقت الجمعة يقترب وإنى أسكن بعيدا ، ولابد أن أذهب بعد نصف
ساعة لأصل قبل الصلاة.

قلت له : أطمئن سأوصلك بسيارتى ، وسأترك عندك الحاسوب لإكمال برمجته لكن
أخبرنى كيف حصلت على تكاليف الزواج والمهر؟

أبتسم وقال :

- كدت أدخل في حرج كبير بسبب المهر

- كيف

- حددت مساء يوم 2001.09.24 موعدا لعقد القران والزواج لكن في صبيحة ذلك
اليوم كانت مشكلتى أنى لم أحصل على مهر بعد، وقد أضعت أكثر ذلك اليوم فى
البحث عنه ، إلى أن وجدت من أقرضنيه فى الثالثة بعد الظهر

- كم كان المهر

- خمسون ألف أوقية فقط هي كل ماوجدت ذلك اليوم ، ولو وجدت أكثر لجأت به

- هل لك أولاد

- خمسة أطفال والحمد لله...ثلاث بناة ..وولدين

- وأين تسكن الآن

أجاب بحرص وحذر:

- فى سكن بجوار أهل زوجتى

-هل تملكه

-لا ...إنى لاأملك شبرا من وطنى الكبير

وعندما أوصلته قريبا من وقت الجمعة رأيت أن هذا السكن الذى لايملكه عبارة
عن غرفة واحدة يقيم فيها مع زوجته وأولاده الخمسة ، ثم رأيت أن هذه
الغرفة  ملاصقة لمسجد بجوارها مباشرة لايفصل بينهما حائط ، ومنارة المسجد
مقابلة لباب الغرفة

ثم عرفت لاحقا من مصدر آخرأنه يتخِذُ من أسفل منارة المسجد مطبخا له ،
وأن الغرفة التى يسكنها هي فى الأصل من ملحقات المسجد الذى يؤُمه والد
زوجته ،وأنه أضطر للسكن فيها ..

زرت الشاب بعد ذلك مرات فى مكتبته ..وفى كل مرة أزداد إعجابا به ، تحدثت
معه فى مواضع كثيرة وناقشت معه مسائل مختلفة.. أعجبنى كثيرا عقله وذكاءه
وصبره وتعففه ومثابرته وخبراته المتعددة . وخطُه الجميل باللغتين العربية
والانجليزية ، حتى أني وجدته محترفا فى كرة القدم ، فيوما كنت أوصله بعد
المغرب ،وفى منتصف الطريق قال لى :

- سأنزل عنك عند مركز رياضى

- أي نوع من الرياضة تمارس؟

- كرة القدم

- من يلعب معك؟

- أصدقائى

- إنى أفهم الكرة وكنت لاعبا ماهرا فى صغرى

عندما وصلنا المركز الرياضى كانت الصلاة تقام فى مسجد بجواره ، دخلت معه
المسجد وصلينا العشاء وخرج هو وبقيتُ أنا دقائق ، ثم خرجت لأرُدّ على بعض
الإتصالات وذهبت لسيارتى أمام المركز الرياضي فرأيته وسط زملائه يلعبون
الكرة ، كانوا أكبر منه سنا  وربما بعضهم يقترب من الخمسين ، وكانوا
شاطرين في اللعب ، لكنه بدي متميزا ومحترفا بينهم يجرى ويراوغ كالسهم
فشدنى وأثار إعجابى..

سألته بعد ذلك عن زملائه فقال إنهم أساتذه ومهندسون

ويومين قبل عيد الفطر الماضي كنت راجعا بعد العصر من خارج نواكشوط  فمررت
على مسكنه وعند وقوفى أمام الباب فتحه ولدان صغيران فى سن الرابعة
والخامسة تقريبا قلت لهم أين والدكم قالا لى :

-        ذهب للسوق .

وقبل أن أفكر بسؤال آخر قال لى أصغرهم

-        سيارتك جميلة ..أستطيع قيادتها

فدفعه الآخر وكأنه تكلمَ فى مالا يخصّه وقال :

- لاتستطيعُ ، أنا الذى أستطيع

فعاد الأول يقول بل يقسم أنه يستطيع أن يقود شاحنة كبيرة

فدفعه الآخر مرة أخرى وأقسم لى أنه يستطيع أن يقود شاحنة أكبر منها بكثير
ومحملة أيضا بالبضائع...وقبل أن يتشاجرا أدرت مفتاح السيارة وهربت..

ويوم العيد بعد الصلاة أضطررت للذهاب للسوق على غير عادتى فلفت انتباهى
أن المكتبة مفتوحة ، فقلت فى نفسي لماذا يفتح يوم العيد؟ ثم دخلت عليه
فوجدته جالسا على فراش خلف مكتبه يصنع الشاي ، سلمتُ عليه وسألته عن
أحواله وذكرت له قصتى مع الأطفال فأبتسم وقال :

-        لو سألتهم عن الطائرة لقالوا أنهم يستطيعوا قيادتها ..ربما
يحلموا أن يكونوا من رواد الفضاء كما كنت أحلم

-        هل كنت كذلك

-        نعم .. حلمتُ أن أكون من روّاد الفضاء.. فلم أصبح إلا من رواد الأرض

ولحَظتْ عينايَ لماذا يعمل يوم العيد .. إنه لايلبس دراعة جديدة .. وربما
لايلبس صغاره الخمسة الحالمين ثيابا جديدة  وربما لاتلبس زوجته ... وكيف
له أن يجلس ويرتاح يوم العيد وهو يُعيل اسرته الكبيرة بمجهود متواضع ..
ولامرتب ولا وظيفة له ..  لكنه بدى صابرا متعففا قنوعا ..

وكان آخر عهدى به أنى أتصلت عليه فى الهاتف منتصف يوم حاروقلت له :

-        أريد منك خدمة لو تكرمت

-        مستعد تفضل

-        أريدك أن تمر على الخطوط المغربية بجواركم قرب السوق وأن تعرف
إذا كانت تعمل في هذا الوقت

فقال بسرعة وحماس : ماذا تريد ؟هل تريد تذكِرة؟

-        لا..لاأريد تذكِرة ..عندى مشكلة بسيطة ربما لاتحُلها إلا الخطوط

-        سأذهب إليهم.. لكن هل يمكن أن تخبرنى ماهي مشكلتك؟

-        الواقع أنها مشكلة صديقى الذى يعمل فى فرنسا ، فقد أشترى تذكِرة
من باريس على الخطوط المغربية قبل شهرين، وموعد عودته غدا ،وقد ضاعت
تذكرته ،فأتصل بعدة وكالات سفر هنا لسحبها من جديد ، فكل وكالة تقول أنها
لا يمكن أن تسحب إلا التذاكر المشترات من عندها ونصحوه أن يسأل الخطوط
المغربية

فقال بحماس أكثر وثقة تامة

-        إذا كانت هذه هي مشكلة صديقك فقد حُلت ، دعك من الخطوط المغربية
، إنتظرك فى المكتبة .

لم أصدقه طبعا ، وقلت فى نفسى أنه لم يفهم ما أريد ،  لكنى عجبت أيضا من
كلامه الواثق .

ركبت السيارة وذهبت للخطوط المغربية فوجدتها مغلقة ، فجأتهُ فى المكتبة
فرحب بى كعادته وأجلسنى بجانبه وعلى نفس الحاسوب الذى يشتغل عليه فتح
برنامجا واجهته سوداء وقال لى :

-هذا هو البرنامج العالمى لحجز تذاكر الطيران

قلت: رأيتُ مثله عند الوكالات لكن لا يمكنهم سحب تذكرة صديقى

فعاد يقول بثقة وهو يضع أصابعه على أزرار الحاسوب

- ما اسم صديقك

قلت غير مبال

- اسمه ( م ع )

بدأ يُدخِل بعض الرموز والأرقام والأكواد التى هي أقرب ماتكون للطلاسم
وفى أقل من دقيقة قال لي :

-        هذه تذكرة صديقك ، اسمه الكامل هو( م ع ق)...وأضاف اسمه العائلى
الذى لم أذكره أنا..ثم واصل

- وقد اشترى التذكرة بمبلغ كذا من عند الوكالة كذا وقد سافر من باريس يوم
كذا ووصل نواكشوط يوم كذا وسيسافر غدا الساعة كذا...

-        فقمت واقفا لا أكاد أصدق من الدهشة وقلت :

-        كيف عرفت؟وكيف استطعت؟ ..وكل الوكالات لاتعرف.. وأنت لاتملك
وكالة.. والذين يملكونها لايعرفون..كيف ..كيف..أخبرنى..

فقال يبتسم بهدوء وتواضع :

-        ربما أعرف أشياء لايعرفونها

قلت وأنا أجلس والدهشة لم تزايلنى :

-        لكن لماذا وكيف تعلمت هذا البرنامج؟ وكيف حصلت عليه وأنت لاتملك
وكالة ؟، بل لاتجد وظيفة بسيطة

قال :

-        إن دافعى لتعلم هذا البرنامج له قصة طويلة ، وطبعا كان الغرض
منه بعد تعلمه الحصول على وظيفة ، المهم  أني تعلمته بنفسى عن طريق
الانترنت ، بل تجاوزت ذلك فتعلمت طريقة تثبيت البرنامج على الحاسوب
وتجاوزت ذلك فتعلمت أشياء أخرى..

ثم قال وهو يسحب تذكرة صديقى على ساحبة الورق :

-        المهم أنى لم أستطع الحصول على وظيفة بعد تعلمه

-        لكن كيف تعرفُ تذكرة شخص لم يبتعها من نواكشوط ولم يسافرعلى الأقل من هنا؟

-        فقال :

-        حتى لو كان صديقك قد سافرمن اليابان إلى روسيا فيمكِنُ أن
أستخرج حجزه بكل تفاصيله الدقيقة ، بل يمكن أن أعطيك قائمة بأسماء
المسافرين معه على نفس الرحلة .

فعدت أقول متعجبا :

-        لكن كيف لاتعرف ذلك أي وكالة أخرى؟

فعاد هو أيضا يُكرّرُ وهو يُسلمُنِى تذكرة صديقى

-        ربما أعرف أشياء لايعرفونها

فلما كان الليل وآويت لفراشى لم أستطع النوم وأنا أستعيد فى ذهنى قصة
الشاب والصعوبات التى مرّ بها من حصوله على الباكلوريا إلى قوله ربما
أعرف أشياء لايعرفونها وأقول في نفسي

-        يعرف أشياء لايعرفونها

-        وحاصل على باكلوريا علمى مرتين

-        وله سنة لغة انكليزية فى جامعة نواكشوط مع مستوى متقدم

-        وله متريز في العلوم العربية والإسلامية من المعهد العالى للدراسات

-        وخبير في برمجة وإصلاح وصيانة الكمبيوتر

-        وخبير فى البرنامج العالمى لحجز تذاكر الطيران

-        وذكي ومثقف وأديب وأمين ،ورفيع، ونبيل، وكريم النفس

وله زوجة وخمسة أولاد يعيشون في غرفة واحدة (لايملكها) ويتخذ من أسفل
منارة مسجد مطبخا له .

ولايوجد فى محله الذي يعيل منه أسرته قيمة خمسين ألف أوقية (حاسوب
وأسطوانات سي دي )نشاطه عادى جدا بل أقرب للركود ولايملك مساحة متر مربع
واحد من هذا البلد الواسع ليسكن عائلته فيه ،ولايجد وظيفة في الدولة وهو
الأولى بها والله ،لأنى أعرف عشرات الموظفين فى الدولة يفوقهم أمانة
وعلما وأخلاقا وشهادات يتقاضون مآت الآلاف من خزينة الدولة هم في غنى
عنها أصلا لأن كل واحد منهم ورث مال قارون عن أبيه.

والأغرب والأعجب من هذا كله أن هذا الشاب من قبيلة أولاد بسباع
...فياللظلم...وياللعار..لقدأضاعوه ..وأيّ فتىَ أضاعوا ...

هكذا تعرفتُ على الشاب ولد لعويسى بصدفة وبتلقائية عجيبة..و

وإن الصدفة فى بعض الأحيان قد تتكفل بأن تميط لك اللثام عن قصة انسان..قد
تبدو فى ظاهرها مجرد قصة عادية ..ولكنها فى حقيقتها قصة استثنائية تحمل
فى طياتها الكثير من الظلم والمعانات.

لاأخفيكم أنى ومنذ أن تعرفت على الشاب وأنا فى حيرة من أمرى وإن قصته
لتأرّقنى وتثير فيّ الألم والوجع والحزن ، ذلك الشاب الذكي المُجدُّ
الطموح الذى لاأحسبه إلا ضحية مظلومة ، وحالة تستحق الحديث عنها ، فلا
أكاد أصدق أن شابا ذكيا ومثقفا وله عدة شهادات ومن قبيلة الرئيس - تلك
القبيلة التى تملك المال أصلا قبل الحكم - يعيش حياةً صعبة وقاسية أجبرته
وأطفاله الخمسة أن يعيشوا فى غرفة واحدة تتبع لمسجد ، وأن يتخذوا من أسفل
منارة ذلك المسجد مطبخا لهم..ولايكادون يرون والِدهم حتى فى يوم عيد)

31. أغسطس 2015 - 17:19

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا