مأساة الحكم العسكري الإنقلابي المزمن، فمنذ 1978 يرزح الحكم في هذا البلد تحت هيمنة مؤسسة، لم يتم إعدادها إطلاقا لأي دور سياسي. ففرضت عليها الرغبة الجامحة في الهيمنة على مقدرات الوطن ممارسة السياسة، رغم عدم احتمال الرأي الآخر والأنانية والطمع الزائد، مما جعل من الحكم
العسكري غالبا، فرصة للثراء على حساب الأغلبية والمصالح العامة. وانهيار المرافق العمومية تدريجيا، خصوصا الصحة والتعليم ومختلف المرافق الإدارية، إلى جانب تحويل ثروات البلد (الصيد والمعادن) إلى جيوب محدودة، دون أن تكون وسيلة للبناء وتثبيت أركان الدولة وتحقيق التوازنات الإجتماعية الأساسية. وفي فترتنا الحالية، أصبح الشعار غير المعلن، مصلحة الحاكم وبعض أهله وحاشيته وسائر الموريتانيين على ضفة الحرمان يتفرجون، يأكلهم الألم من الغبن ويهددهم إنفلات أمني متصاعد، خصوصا في أوساط بعض المراهقين الفاقدين للثقة في مبادئ المجتمع ومنظومته القيمية التقليدية الأصيلة، ربما تحت تأثير العولمة وفقدان المدرسة والأسرة القدرة على ضبط الأجيال الصاعدة بوجه خاص. واقع متنوع، يؤشر إلى وجود أزمة واسعة النطاق، تهدد الدولة بالشلل والركود السلبي الكبير على الأقل. واقع تترتب عليه أزمات ومعاناة في كل ميدان تقريبا. كل هذا يتم وسط تجاهل رسمي، بل مع الإدعاء العكسي، أن النظام فعل كل شيء حسن، ولا سلبيات له تقريبا. بينما تكتفي المعارضة بالرفض والإحتجاج الضعيف الأثر. وفي المقابل تستسلم النخب، إن صح الإطلاق، وفي أغلب الأحيان، لتيار الترغيب والترهيب فحسب. ليجد المواطن الضعيف نفسه، الذي يشكل السواد الأعظم، وسط حصار الله أعلم بتوقيت فكه ونهايته. حتى الصحافة التي يفتخر النظام القائم بأنه حقق لها قدرا واسعا من الحرية والحماية، مع عجز عميق في الوسائل المادية، أصبحت "الهابا" تهددها ضمنيا مساءا وصباحا، بحجة وجود خطابات إعلامية تمس من حاكم البلاد وأسرته، وتتخندق في مسارات ضيقة مفرقة. ومع أن الإلتزام بالخلق الجامع غير المفرق هو ما ينبغي للجميع إعلاميين بوجه خاص وغير إعلاميين حتى، إلا أن هذا الهجوم من "الهابا" ظل غير مفهوم باختصار، لأن تسيير ولد عبد العزيز للمال العام والنفوذ غير معصوم وغير نموذجي ، كما أن موقعه الوظيفي وغيره من الشخصيات العمومية، يجعله عرضة للنقد والتمحيص. فما الداعي للحدب عليه والدفاع عنه إلى كل هذا الحد المريب، ولماذا لا يترك الأمر للجهة العدلية إن إدعى البعض أحيانا وجود مخالفات قانونية ليتم تأكيدها أو نفيها قضائيا. كما أن نظام ولد عبد العزيز، هو من أمر بتزكية أكبر جهة تحرض بدواعي حقوقية، وسمح لرئيسها بالترشح للرئاسيات مباشرة. وتحريك الصحافة وإدخالها في مشاداة مع "الهابا" أو غيرها، أمر قد لا يخدم النظام نفسه، لأنه المروج الأول، بالقول: "موريتانيا الأولى عربيا في مجال حرية الصحافة"، فربما أخطأ رئيس "الهابا" أسلوب خدمة النظام والتقرب له، ونحن على علم بقرب نهاية مأموريته، وقد يأتي هذا التصعيد ضد الصحافة، في سياق البحث عن منصب بديل أفضل. وأما الإعلام نفسه، فنواقصه ربما موجودة، لكن مسألة التمويل والتكوين وقضايا أخرى أحق بالإهتمام من الدفاع عن شخص صرح بالمليارات، ملكا خاصا، طرأ أغلبه بعد الهيمنة على الحكم وبعد إنقلابي 2005 و2008. إن "الهابا" وأغلب أطرها الكبار يتمتعون بمرتبات كبيرة على حساب المهنة الإعلامية، وخير لهم أن يساهموا -إن أمكن- في ترسيخ ما هو موجود من حرية إعلامية، لا تعويقه. ولا داعي للانخراط في هذه المعارك الوهمية. فهي تضر بجميع المعاني أكثر مما تنفع. ومن يكتب بجرأة وصدق، في هذا الزمن، قد لا يجد صعوبة في النشر في الداخل والخارج بأي أسلوب. فالحرية الإعلامية أصبحت مشاعا عالميا، ومحاصرتها ضرب من التخلف والخيال، ولا مجال للمقارنة بين مشاريع "كراب 1و2" وما هو موجود حاليا من حرية إعلامية ضحى بعضنا من أجلها، عبر صبره على السجن والتغريم وساهمت الظروف السياسية والإعلامية، محليا ودوليا في تعزيزها. ومن وجه آخر القداسة للدين أساسا "الإسلام"، والحق عموما ولا ننفي الشرف عن ولد عبد العزيز ولا نناصر التحامل على شخصه، لكنه دون شك ودون ريب رسخ المسار غير الديمقراطي عبر إنقلابين ومن وجه آخر أثرى هو وبعض أهله في سياق إستغلال النفوذ، وهذه هي دعوانا، ومن تجاوز إلى التجريح خرج على الأسلوب المهني، ومن إدعى القداسة لرئيس كرس الإستبداد والإستحواذ على الشأن العام والمال العام ربما يعوزه الدليل في نظر البعض، وأغلب الزملاء لا يخرج غالبا عن هذا السياق. وصحافتنا من أكثر الصحافة في الوطن العربي، جرأة ومهنية أحيانا، ولا داعي للتحامل عليها دون مبرر، رغم ما تعيشه من فقر مدقع وإهمال صريح في المجال المالي، ومبلغ 200 مليون لا يتم توزيعه عليها بإنصاف، كما أنه لا يعني أي شيء بالمقارنة مع كثرة الصحف والمواقع والقنوات والإذاعات. إذا، بإختصار حملة "هابا" غير ملائمة وغير موفقة توقيتا وظرفا. وعلى ضوء كل هذه المعطيات السابقة بالنسبة لمختلف المجالات، لابد من القول بأن الوطن دخل في نفق مظلم تقريبا، وهو بحاجة لإصلاح شامل، وما نعيشه من خصوصية المنافع وشيوع المحسوبية والتمييز السلبي أمر لا يشجع على التفاؤل كثيرا. وكذلك عدم النجاح في الدخول في حوار جاد بين مختلف مكونات المسرح السياسي المحلي. كل هذه التحديات تحد من الأمل في تحقيق التغيير المنشود. ويبقى السؤال المطروح بإلحاح وحيرة، هل سقطت فعلا موريتانيا في الوحل؟!. وهل لهذا الليل من آخر. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق، وباختصار، أن التوظيف والدعم بمختلف صنوفه والتسهيلات بمختلف أنواعها، حصرا على الداعمين للحاكم العسكري، ومن سواهم من المواطنين قلوبهم ترتجف من صنوف العقاب والاستهداف، فقط لأنهم أحرار شرفاء لا يقبلون السقوط في مهاوي التزلف والموالاة العمياء. بلد بهذا الوصف يصعب الشعور فيه بالإرتياح، فمن باب أولى وأحرى السعادة وأوجه الإزدهار والنجاح. وليعلم المغتصبون للحقوق، من مختلف المستويات، أنه ما ضاع حق وراءه مطالب، وأن يوم الإنتقام الرباني العادل، قادم لا محالة، في الدنيا والآخرة. فلا يفرحوا كثيرا بالإفلات المؤقت من القصاص والجزاء.