"دون الحاجة إلى أن يدخل رجل الفكر في العمل من خلال العمل، فإنه يجب على الأقل أن يدخل من خلال الفكر. لا بد أن يعتاد المثقفون على التغلب على حذرهم و خوفهم من الحقيقة العملية و أن يجعلوا الواقعية حيث يجب أن تكون. و إنه ليس سوى من باب المنطقية أن تحمل فكرة صائبة عواقب الواقعية،
وإلا فإنه ليس اجتماعيا إلا كذبة"
ترجمة/من نص يقديم لكتاب "الخنجر بين الأسنان"/إلى المثقفين Henri Barbusse
لا يحتاج أي كان في هذا البلد اليوم إلى قراءة دقيقة أو تأمل عميق ليدرك مدى الضياع الفكري السياسي الحاصل عند الموريتانيين منذ ما قبل الاستقلال بعقد أو يزيد إلى حدود العقدين من الزمن لغاية الحقبة الراهنة من تاريخهم المدني القريب العهد جدا بمفهوم الدولة المركزية.
و لما كان إذ ذاك مطلب "أولى بوادر" الوعي الحديث و إدراك حسنات المدنية و روافد استقرارها و مزايا التعاملية الجبرية التي تميزها عن بداوتهم في المتاهات الشاسعة، هو الاستقلال، فقد كان التشبث بالهوية القومية العربية دون سواها لبلد متعدد الأعراق، هو شعار وهدف المرحلة، فقد أعقب ذاك اشتعال حرب ضروس عام 1975 أيقظت شياطين النزعات العرقية النائمة و أذكت جذوة نار إحساس الشرائح الدونية بالغبن و التهميش وضعت الدولة المترنحة أمام هجرة السكان من الريف إثر موجة لا قبل لها بها من الجفاف استمرت عقودا ثلاثة متتالية، إلى عاصمة ناشئه غير مؤهلة في بنيتها الغائبة لاستقبالهم و إيوائهم و ضعف إدارة مبتدئة و غير مؤطرة كفاية لغرس روح المدنية فيهم. و لقد جرت رياح التحول بعكس هذا الاتجاه الذي سلكته في بادرة انتقائية من المستعر الفرنسي و لحسابات تم استشرافها بإتقان كل الدول المجاورة من حولنا.
و بقدرما كان واقع حالها المغاير لروح الدولة المركزية قد قيدنا عن الحراك السليم و أبقانا في شرنقة ماضي السيبة المرير، بقدرما استطاعت هذه الدول من حولها ـ و إن بتفاوت ـ أن ترسخ في الذهنية المشتركة لسياسييها خارطة القيم السياسية لدولة القانون، ذلك الكيان الحديث الذي فوق كل الاعتبارات الضيقة، قبلية و إثنية و شرائحية؛ متمثلا في الدولة القوية الأركان التي تترك الفضاء من أجل تحقيق زوال تلك الاعتبارات المتجاوزة لـ"مفعول الزمن" الذي سيظل يلاحقها و يقلص تدريجيا تأثيرها السلبي حتى تختفي نهائيا أو على الأقل أن لا يبقى منها إلا ما يكون على شكل نظم اجتماعية محدودة الفعالية تؤطر به و ترسخ المثل و القيم و تحمي أفرادها، في حدود عدم تعارض مع سلطة الدولة و هيبتها ضمن سياقي القانون و الديمقراطية من ناحية، كما يحفظ لهم خصوصيات هي في عمومها و بالنتيجة مجموع خصوصيات البلد و مميزاته الثقافية من ناحية أخرى.
و إن الأحزاب في هذه الدول من حولنا تبدو عريقة عتيدة في تعاطيها و متماسكة في بنيتها و لا تفوح منها رائحة "الشخصنة" أو تظهر عليها صبغة "العصاباتية"، كما أنها لا تخضع بشكل قسري للدوغماتية و الديماغوجية و حكم الأقلية (الأوليغارشيا Oligarchie) و حكم الشيوخ (الجونتوغراشياGéontocratie ) تحت أية أثواب تكون فكرية أو عقائدية أو قومية، أو تقدمية، أو نهضوية، أو اشتراكية، يسارية أو يمينية، أو بادعاء الوسطية، إلا أن يكون ثمة تشاور حول ذلك و من بعد إجماع و تماسك يحمل فيه الكل المسؤولية مشتركة و يتقاسم النجاحات و الإخفاقات و في سد منيع لـ"الترحال" السياسي البغيض الذي يجيده أغلب المنتسبين لدائرة نخب هذه البلاد، بحرفية عالية و بعد تام عن قيم النبل و الفروسية و الشجاعة و الثبات بإيمان على المبادئ و المواقف و قيم الوطنية و التضحية.
و بطبيعة الحال لا يستطيع السياسيون الموريتانيون الذين درجوا على هذا النحو الخاطئ من السياسة و يصرون إلا ما رحم ربك ان يخرجوا من مأزقهم التاريخي الذي وقعوا ـ او اوقعوا ـ فيه، بدون الخروج من ضياعهم الفكري السياسي الذي يتخبطون فيه، حتى ولو قدرْ لأحد التيارات الفكرية السياسية المتصارعة على السلطة غاية و نهاية أن ينتصر ؛ ذلك بأن الفكر عندهم غير مشبع بالمبدئية الثابتة التي صنعتها التجارب في تلاحق و تصقلها و تغذيها النزاهة الفكرية و الرصانة العلمية التي تصنع المنهج و تقنن الأهداف من منطلق موضوعيتها و إلحاحيتها و ضمان نتائجها الإيجابية.
و إنها التيارات و الأحزاب و كيانات المجتمع المدني المطالبة بإلحاح في كل هذا بالتريث في "مرتونها" العبثي حتى تلتقط أنفاسها و حتى تسلك على هدي فجاج البحث المستضيء بالمنطلق الراسخ قبل العبور إلى ساحة معترك السياسية الافتراضي والميداني لجني النتائج التي تبني بكل ثقة و لا تهدم بكل إرادة الخير.
و مع أن الضياع الفكري السياسي التي ظهرت أولى بوادره في مطلع هذا القرن الواحد والعشرين ليس ظاهرة موريتانية أو عربية أو إسلامية فريدة بين الشعوب والدول. و في هذا يقول أحد المفكرين العرب "كثير في الغرب الأوروبي والأميركي من المفكرين والمثقفين يشكو من ضياع مماثل أو مواز". و لإن كان ما ذهب إليه هذا المفكر يلامس موضوعيا بعض واقع و انتشار هذا الضياع الفكري او النفساني و الحضاري و الحياتي إلا أن الأمر في موريتانيا يظل الأشد والأعمق والأخطر في شبه منطقته جغرافيا و حضاريا.
صحيح أن هذا الواقع الموريتاني ظل مُلجما عن الشطط بفعل المعتقد الإسلامي و ضمنه وحدة المذهب المالكي الأشعري الوسطي الذي جعل الشعب الموريتاني ـ على اختلاف أعراقه و تراتبية طبقاته الظالمة بخروجها السافر على روح و عدالة الدين و إنصافه في الجوهر و المحتوى ـ يتميز عن غيره من أغلب شعوب العالم ببعده عن الحدة و الشدة و عزوفه عن اللجوء إلى العنف المدمر.
و لكن غير صحيح أنه لم يعرف نوبات من التململ و أنه لم يعط مطلقا إشارات و علامات في النفوس و في الشارع شديدة الوضوح و عالية الدقة لقابلية الانفجار و قلب المعطيات أملا في تصحيح الوجهة و المسار، كما يروج المُدَجنُون و بَاعةُ أحلام الوئام "الطوباوي" على أطباق من النفاق للأحكام و مترفي التعاطي السياسي بكل الأوجه المارقة على مصداقية السياسة و نبلها بعيدا عن أية روح حوارية تكيل عطاء بمكيالي احترام الرأي الآخر وتغليب المصلحة العليا، عجزا منها قائما و صريحا عن استيعاب قول افلاطونPlaton 347ـ427 ق.م"نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكر و متعصبون إذا لم نرد أن نفكر و عبيد إذا لم نجرأ أن نفكر".