فهمت.. ولكنني لم أفهم! / محمدو ولد البخاري عابدين

فهمت من كلام الدبلوماسي السابق والعضو النشط في المنتدى المعارض، المستقل في نفس الوقت.. السيد محمد فال ولد بلال في مقابلة على قناة الساحل، أنه يستبق اختتام الأيام التشاورية الجارية الآن، بالمطالبة بأن تتمخض هذه المشاورات عن وثيقة تعبر عن رؤية الحكومة، وتكون منطلقا لأي حوار 

سينطلق.
فهمت أنه يطالب بتلك الوثيقة لأنه يتوقع، كما يتوقع الكثيرون، أن تخلص النقاشات والاقتراحات في هذه المشاورات إلى نقاط ستشمل أغلب، إن لم يكن كل، ما كانت المعارضة تطالب به كممهدات للحوار، لأنها، أي الوثيقة، ستكون خلاصة لأفكار وآراء جمع كبير من الموريتانيين، من مرجعيات فكرية وأساتذة جامعيين ومحامين ونقابيين ومهنيين.. صحيح أن بعضهم يتبنى طرح الموالاة، لكن بعضهم الآخر له طرحه المستقل، هذا بالإضافة إلى شخصيات من المعارضة مهما كانت قليلة، ومهما قللت المعارضة من شأن مشاركتها في هذه المشاورات، إلا أنها تمثل صوت المعارضة وطرحت ما كانت تطرحه وتطالب به.
لم أشارك في هذه المشاورات ولم أدخل قصر المؤتمرات في حياتي، لكنني تابعت جل ما تم نقاشه فيها من أفكار شملت جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد وبدون حدود، وحتما ستخرج كل تلك الأفكار والمقترحات على شكل نقاط في الوثيقة النهائية لهذه المشاورات، خاصة ذلك الجوهري منها وليس كل ما طرحه أصحاب الأخيلة الواسعة من تنظير و" ينبغيات " ليست المشكلة في وجاهتها أو الحاجة إليها، وإنما في ما يقف أمام الأخذ بها وتطبيقها من عوائق مادية وفنية وبشرية وقدراتية..
لكن من المؤكد أنه سيكون من ضمن نقاط هذه الوثيقة آليات جديدة لمسار انتخابي كانت المعارضة تطالب بها، وكأن ولد بلال، كممثل للمعارضة يهيئ الرأي العام، وأنصار المعارضة بالذات التي قاطعت هذه المشاورات كتكتيك أولي، يهيئهم بعد، صدور هذه الوثيقة، لصعوبة الموقف الذي ستجد فيه المعارضة نفسها برفض الحوار على أساس هذه الوثيقة، مما قد يترتب عليه التحاق شخصيات أخرى من المعارضة بالحوار الذي سينعقد بمن حضر، ويتم إقرار وتطبيق ما جاء في وثيقته، والذي سيكون من ضمنه، كما قلنا، الآليات الجديدة للانتخابات ( المغزل عليه ) وبيت القصيد ومربض الفرس بالنسبة للمعارضة، ليشارك في هذه الانتخابات من مبدأهم المشاركة وشاركوا في الانتخابات الماضية، والاحتمال كبير جدا أن يشارك فيها آخرون سئموا وضعية المقعد الشاغر واكتووا بنار المقاطعة، مدفوعين ب" عظ أصباع " وندم، غير مصرح به لكنه حاصل، على قرار مقاطعة الانتخابات الأخيرة، وما حققه زملاء لهم فيها من مكاسب ما كانوا يتوقعونها لحكمهم المسبق باستحالة شفافيتها.. وبمشاركة بعض ممن قاطعوا الانتخابات سابقا في أي انتخابات قادمة، ستردد المعارضة مع " لمغني الفائت " منطبقا عليها قوله:
غير آن كاع إل تميتْ ــ ــ ــ  ألا كلْ ابلدْ يرجع منِ شِ
ما لاهِ يلحكْ تيويليتْ ــ ــ ــ واعظيم أطافْ أل يمشِ
لكنني لم أفهم قول ولد بلال إننا قادمون على كارثة بمجرد انتهاء المأمورية الثانية للرئيس، أو ما قال إنه مأزق أو فراغ ستخلقه مغادرة الرئيس في نهاية مأموريته. بينما الذي نعلمه من الدستور هو أنه فعلا يحدد فترة حكم رئيس الجمهورية بمأموريتين، لكنه، أي الدستور، يحدد هاتين المأموريتين لشخص الرئيس لا لحزبه الذي يحكم بواسطته، بمعنى أن الرئيس وهو يستعد لمغادرة الحكم يحق لحزبه اختيار شخصية من قياداته وتقديمها كمرشح لخلافة الرئيس، تفوز أو تخسر، كما يحدث في أكثر من بلد من البلدان التي تتبنى تحديد المأموريات، فأين المأزق هنا أو الفراغ؟!
الفراغ الدستوري شروطه معلومة ومحددة في فقراته، ومنها مغادرة الرئيس للحكم بطريقة غير اعتيادية، أما أن يُنهي فترة حكمه فيقدم جهازه السياسي شخصية لخلافته فلا مسوغ لفراغ، إلا إذا كان ولد بلال، ومن بعده المنتدى، لا يعتبرون تبادلا على السلطة على هذا النحو تبادلا، أو لا يعترفون بتبادل على السلطة لا يأخذ المعارضة إلى هذه السلطة! ألم أقل لكم إنني لم أفهم؟
لم أفهم كذلك قوله في السياق ذاته إن المأزق الذي سيخلقه انتهاء مأمورية الرئيس، سيرافقه مأزق آخر يتمثل في وجود شخصيات يمنعهم الدستور من الترشح بفعل عامل السن، لم أفهم هذا الكلام لأن تغيير سن الترشح للرئاسة لا يمكن إلا من خلال تغيير المادة المتعلقة به في الدستور، وتغيير الدستور خط أحمر بحسب الشروط التي تقدم بها المنتدى الذي يتحدث ولد بلال باسمه في هذه المقابلة! إلا إذا كان الموقف من تغيير الدستور لا يحظى بالإجماع مكونات قادة المنتدى، أو أن معارضتهم لتغييره هي مجرد تلويح أو من قبيل " يتمنعن وهن راغبات "، وهناك قائلون كثر بأن من بدأ بإطلاق " بالون اختبار " تغيير الدستور هي المعارضة!
لم أفهم كذلك، أو لم أستسغ على الأصح، الفكرة المروجة لها من طرف قيادات المنتدى وأنصاره وأقلامه، من أن للرئيس هدف واحد من الدعوة للحوار هو تفكيك المعارضة! فأين المشكل في ذلك وما سبب الاستغراب، ومتى كان الخصوم السياسيون متوادون إلى هذا الحد يقدم بعضهم لبعض خدمات واستشارات القوة والتماسك؟! وما الهدف من خطابات ودعايات المعارضة وبياناتها النارية الموغلة في العصبية والنرفزة غالبا، والمنفلتة من أي عقال عرفي أو ذوق سليم، وما الهدف من تبخيسها لكل سياسات النظام على مدى سبع سنوات سوى إرباكه والتشويش عليه، وبث الريبة والشكوك في صفوف مناصريه وداعميه وحلفائه الداخليين والخارجيين؟!
إن من اخترعوا الديمقراطية اختاروا لها الوصف المناسب والاسم الصحيح عندما سموها " لعبة " ومن حق النظام ـ أي نظام ـ أن يضعف خصومه السياسيين، ولذلك وسائل أقرتها الديمقراطية اللعبة، ومن حق المعارضة ـ أي معارضة ـ أيضا إضعاف نظم الحكم بالوسائل التي تقرها كذلك هذه اللعبة..
وما دام البعض يحلوا له دوما الاستئناس وضرب الأمثلة بما يحدث في الولايات المتحدة والغرب عموما، فهذا بالضبط هو ما يحدث هناك، مواقف يتبناها وقرارات يتخذها الجمهوريون إذا كانوا هم من في الحكم، من أجل إرباك الديمقراطيين واختراق صفوفهم واستمالة جزء من مناصريهم، ليرد عليهم الديمقراطيون بوسائل إرباك وتشويش وإضعاف أخرى، ونفس الشيء بين العمال والمحافظين في بريطانيا، وبين اليمين والاشتراكيين في فرنسا، وبين الحزب المسيحي وخصومه في ألمانيا.. مع فارق وحيد هو أن المتصارعون هناك يتصارعون على كل شيء واضعين جانبا كل ما يتعلق بأمن البلد وسمعته ومصالحه واحترام كافة رموزه، فتلك خطوط حمراء لا يقترب منها الصراع أحرى أن يلمسها أو يتعداها.. أما عندنا فكل ذلك مباح ومستباح، بل هو الدليل على النضال الأصيل والمعارضة الناصعة!
لكن وكما قد ينجح النظام في الوقوف في وجه دعاية وحيل خصومه، والإبقاء على أغلبيته وداعميه ملتفون حوله متراصون خلفه، على المعارضة أن تقف، هي الأخرى، في وجه وسائل النظام لتفكيكها، فبقاء النظام قويا ومتماسكا هو من مسؤولية ومهام النظام نفسه وأغلبيته، وليس من مسؤولية ولا مهام المعارضة، كما أن بقاء المعارضة متماسكة، هو أيضا من مسؤولية ومهام المعارضة وليس النظام!
إلا أن تماسك المعارضة لا تكفي له البيانات المطمئنة حوله، ولا الجلوس منكبا بمنكب على طاولات الندوات والمؤتمرات الصحفية، ولا تشابك الأيدي في مقدمة المسيرات.. " أشكم "! فتلك مجرد مظاهر من السهل المحافظة عليها، لكنها من " الشفافية " بحيث لا يمكنها حجب ما يدور خلف واجهتها من خلافات وتضارب رؤى ومصالح وغياب ثقة يتحدث عنه، ويناشد من أجل تلافيه، قادة في المعارضة نفسها أكثر مما تتحدث عنه الأغلبية أو النظام، وهي خلافات كانت قائمة وزادها الحمل الذي حملت به المعارضة نفسها مؤخرا بما عرف بالمجتمع المدني والنقابات والمستقلين، كصاحبة الحطب التي عجزت عن حمله فزادته! ولتصبح مكونات هذا الحمل الجديد هي أكثر النابشين لخلافات المعارضة اليوم، فكلما كثر الشركاء عز الانسجام والإجماع والاحتفاظ بالأسرار..!
فإذا كان النظام أراد بالدعوة للحوار أو بغيرها فعلا تفكيك المعارضة، فلم يقم إلا بما تمليه مقتضيات التنافس والصراع، وإذا كانت المعارضة أصرت على التماسك وأفشلت ذلك المسعى كما تقول، فلم تقم،هي الأخرى، إلا بما تمليه تلك المقتضيات، وهذا ينبغي أن يكون معلوما ومسلما به من اليوم

16. سبتمبر 2015 - 14:17

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا